علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

كلنا.. كلنا نحب جميرا

آراء

محظوظون هم أولئك الذين يولدون في أماكن تطل على بحار، ويعيشون طفولتهم على سواحلها. ومحظوظ أنا، لأنني واحد من هؤلاء، فقد وُلِدت ونشأت في «فريج» ارتبط اسمه باسم مهنة من مهن البحر؛ هو «فريج الضغاية»، الذي استمد اسمه من إحدى طرق صيد الأسماك، هي «الضغوة» التي تعني صيد الأسماك الصغيرة بشباك كبيرة، ذات فتحات ضيقة، يقوم بغمرها الصيادون في البحر حتى تمتلئ بالأسماك.

وعشت طفولتي كلها على ساحل البحر، متنقلاً بين بحر «ديرة»، حيث كنا نسكن، وبحر «جميرا»، حيث تسكن شقيقتي الكبرى.

ما بين بحر «ديرة» وبحر «جميرا» اللذين عشت على ساحليهما تكونت علاقة حميمة، حملت ذكرياتها معي عبر رحلة العمر، ولم تغادر تفاصيلها ذاكرتي حتى اليوم، لأن الذين يولدون على سواحل البحار تظل ذاكرتهم متقدة بها، يحملون ذكرياتها معهم حيثما رحلوا، تستقر في أعماقهم غنية بأحلى الصور، مثلما هي أعماق البحار غنية بالحياة والجمان والمرجان.

وكانت هذه الذكريات أكثر حضوراً مساء يوم الأربعاء الماضي، عندما حضرت حفل تدشين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لقناة دبي المائية على شاطئ بحر جميرا، في أمسية جميلة، وأجواء احتفالية رائعة، استحضرت الماضي بكل ما فيه من عبق وذكريات مستقرة في الوجدان، لتمزجه مع الحاضر بكل ما فيه من ألق وجمال وروعة، فقناة دبي المائية، الوجه الجديد لدبي، ليست مجرد مشروع اقتصادي وسياحي فقط.

وإنما هي مشروع حضاري وعمراني، يرسم خريطة جديدة لدبي، ويعيد تشكيلها، بعد أن تدفقت المياه في مجرى القناة لتصل منطقة الخليج التجاري بمياه الخليج العربي، معلنة إنجاز ملحمة سوف تضفي على وجه دبي الجميل مزيداً من الألق والروعة، يتيح لساكنيها وزوارها مزيداً من المتعة، ويؤكد أن هذه المدينة متجددة، لا تقف عند محطة جميلة ورائعة، إلا لكي تنطلق إلى محطة أجمل وأروع.

في ليلة الافتتاح تلك، كانت الباخرة تشق طريقها بنا وسط قناة دبي المائية، وكان قطار الذاكرة يعود بي سنوات إلى الوراء، عندما كنا صغاراً نلهو ونلعب على رمال شاطئ جميرا، وكانت شواطئ جميرا وقتها بكراً، لم تمتد إليها يد التعمير بعد.

لم نكن ندرك وقتها أن مستقبلاً رائعاً ينتظر هذه الشواطئ، وأنها ستتحول ذات يوم إلى مرافق سياحية، وأن مشاريع ضخمة سوف تقام عليها وحولها، لكنّ حكام هذه الإمارة، الذين يبهرون الجميع دائماً بأفكارهم ومشاريعهم، كانوا يعرفون ما يريدون، وكانوا يخططون لتحويل دبي إلى أيقونة للعالم، ينبهر بها الجميع.

ويتطلعون إلى مجاراتها، لكنهم يعجزون عن اللحاق بها، لأن دبي لا تنام على فكرة جميلة إلا لتصحو على فكرة أجمل، فهي مزيج من الأفكار الناجحة، التي لا تخطر على عقول الكثيرين، وإن خطرت لا يستطيعون تحقيقها، بينما يستطيع حكام دبي، وأهلها تحقيق هذه الأفكار بمهارة فائقة، ويحولونها إلى واقع على الأرض يدعو إلى الإعجاب والاندهاش والانبهار.

وهذا ما حدث لكل من حضر حفل افتتاح قناة دبي المائية، الوجه الجديد لدبي، أو شاهده عبر شاشات التلفزيون، التي نقلته على الهواء مباشرة.

لم نكن ونحن صغار نلعب ونلهو على شواطئ دبي نتصور أن وجه هذه الشواطئ سوف يتغير على هذا النحو، الذي نراه اليوم، لكنّ حكام دبي كانوا يرون أبعد مما نرى، وكانوا يخططون لجعل دبي أيقونة العالم بحق، لذلك عملوا جاهدين على تحقيق هذه الرؤية.

وكانت البداية من المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، الذي كانت له نظرة بعيدة، عجز الذين كانوا حوله عن إدراك مداها، فوقفوا ينظرون إليه باندهاش، وهو يقوم منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي بتوسعة وتعميق خور دبي، ومد الجسور عليه.

وحفر الأنفاق تحته ليربط بين ضفتيه، ثم جاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، ليكمل ما بدأه والده، عليه رحمة الله، ويحدث النقلة الكبرى في تطور الإمارة، حتى أصبحت دبي اليوم أيقونة العالم بحق، ومهوى أفئدة البشر، يأتون إليها من كل أنحاء الدنيا ليشاهدوا الابتكار والتجديد، ويستلهموا منها الأفكار، ويتمنوا أن تصل بلدانهم إلى شيء مما وصلت إليه.

ودبي ماضية تنظر إلى الأمام نظرة ملؤها الإصرار والعزيمة على الذهاب إلى مسافات أبعد في سباقها نحو التميز، تتحدى نفسها لإطلاق أفضل ما تملك من أفكار، كي تصل إلى الحدود القصوى من الإبداع، تماماً كما قال سموه خلال تدشين المرحلة الثانية والأخيرة من قناة دبي المائية من على شاطئ جميرا يوم الأربعاء الماضي.

كلنا.. كلنا نحب جميرا، بشواطئها الساحرة، وفنادقها ومنتجعاتها الجميلة، ومقاهيها ومطاعمها الراقية، ومحلاتها ومراكز تسوقها الأنيقة، وآثارها التي تدل على أهميتها التاريخية، وازدهارها منذ القدم، وقبل هذا كله وبعده، بأهلها الكرام، الذين تتجسد فيهم أصالة أهل دبي، وطيبة أهل الإمارات وشهامتهم.

وإذا كانت جميرا جميلة قبل إنشاء القناة المائية فيها، فهي اليوم أجمل بوجود هذه القناة، التي سوف يتوافد الزوار عليها، ليعيشوا متعة الإبحار فيها، ويستشعروا سحر دبي، الذي لا يقاوم.

شكراً صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على ما تضيفه كل يوم إلى دبي. شكراً هيئة الطرق والمواصلات.. شكراً دبي القابضة.. شكراً مراس.. شكراً ميدان، فقد أبليتم بلاء حسناً، وأثبتم أنكم للمسؤولية عنوان.. شكراً جميرا، فكلنا.. كلنا نحبك.

المصدر: البيان