الثلاثاء ٢٥ نوفمبر ٢٠١٤
باتت معروفة أسباب المضيّ في التفاوض بين إيران وأعضاء مجلس الأمن ومعهم ألمانيا، تماماً كما باتت معروفةً أسباب تعثّر التفاوض و «الفجوات» التي تنمّ عن خلاف لا يزال قائماً، وقد يبقى. لكنْ ربّما جاز الكلام، وراء ما هو معلن ومعروف، عن أحداث شهدتها العقود القليلة الفائتة وصارت مصدراً جزئيّاً لقناعات ولطرق في النظر والتأويل. فالأحداث هذه، لا سيّما قراءتها، ولّدت نوازع وميولاً لا تفصح عن نفسها بالضرورة إلاّ أنّها، مع هذا، تتحكّم ببعض التفاوض، وقد تتحكّم ببعض نتائجه نجاحاً أو فشلاً. فما من شكّ في أنّ إلحاح إيران، بل إصرارها، وما يوحيه من تفاؤل بالعثور على ضوء في آخر النفق، يستند إلى درس سهل الاستنتاج: ذاك أنّ الضغط الدوليّ في ما خصّ السلاح النوويّ، على إسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشماليّة، لم يُفلح مع أيّ من هذه الدول. ولئن استمرّ هذا الضغط على الأخيرة، فإنّ التعاطي مع التسلّح النوويّ للبلدان الثلاثة الأولى غدا تسليماً بأمر واقع وراسخ. وفي وسع الإيرانيّين أيضاً أن يراهنوا على أن قوّتهم، التي يُنكرون وجهتها النوويّة، لا تعوزها القضيّة التي تبرّرها. فهم، بُعيد قيام ثورتهم وجمهوريّتهم في 1979، تعرّضوا لهجوم عراقيّ ساحق كانت تتعاطف معه البلدان الغربيّة، فضلاً عن العربيّة. وهو هجوم ما لبث أن تحوّل حرباً دامت نحواً من عقد وتأدّى عنها مقتل قرابة مليون. لكنْ…
السبت ٠٨ نوفمبر ٢٠١٤
إحياء ذكرى عاشوراء في دمشق (كما غطّته «الحياة» الاثنين الفائت) حدث غير عاديّ في دلالاته. وهذا لا يعود فحسب إلى «أمويّة» العاصمة السوريّة والغلبة الكاسحة تقليديّاً للونها السنّيّ، ولا إلى حقيقة أنّ إحياء عاشوراء على هذا النحو غيرُ معهود في تلك المدينة. إنّه يرجع، أوّلاً وأساساً، إلى أنّ الأقلّيّة العلويّة ليست، بالتعريف، شيعيّة إثني عشرّية، ولا تحتفي تالياً بعاشوراء، علماً أنّها هي الطائفة الأقلّيّة الأكبر في سوريّة التي يمثّل شيعتها أقلّيّة ضئيلة العدد. لقد جاء في الخبر: «شهدت شوارع دمشق إحياء غير مسبوق من حيث التنظيم والكثافة لذكرى عاشوراء بفضل تسهيلات قدّمها نظام الرئيس بشار الأسد، وشارك فيها شيعة من سوريّة ولبنان والعراق وإيران وعناصر ميليشيات تقاتل إلى جانب القوّات النظاميّة ضدّ المعارضة السوريّة». وترافق الحدث الدينيّ والطقسيّ هذا مع حدث سياسيّ وعسكريّ مفاده أنّ إيران وحّدت تنظيمات شيعيّة عراقيّة وأفغانيّة وسواها تقاتل في سوريّة تحت قيادة إيرانيّة. لكنْ في اليمن أيضاً جدّ تطوّر مشابه. والخبر اليمنيّ يقول بدوره: «أحيت جماعة الحوثيّين في صنعاء أمس وللمرة الأولى، ذكرى عاشوراء على طريقة الشيعة الإثني عشريّة، وغطّت الشعارات واللافتات السود شوارع المدينة». حصل هذا بعد كلّ ما راج عن اعتناق الحوثيّين، المدعومين من إيران، الشيعيّةَ الإثني عشريّة، علماً بوجود رأيٍ يفيد أنّ المذهب الزيديّ الذي صدر عنه الحوثيّون يقع في نقطة وسطى…
الثلاثاء ٠٤ نوفمبر ٢٠١٤
تتضافر الأسباب والعوامل التي توحي أنّ المنطقة العربيّة إنّما تتّجه نحو فرز مطلق لا تجاوره أيّة مساحة من مساحات الاشتراك والتواصل. وبلوغ فرز كهذا إنّما يتّسم بسمات في عدادها انتقال النزاعات من نزاعات هدفها الاستحواذ إلى أخرى هدفها التدمير. وهو ما يعبّر عنه التمييز الإنكليزيّ بين civil wars وuncivil wars. كذلك يتعفّف الصراع، في ظلّ الفرز المطلق، عن كلّ سياسة، بحيث لا يعود الخصم راغباً في تفتيت جبهة خصمه وفي كسب ما يمكن أن يكسبه منها، بل يصير مهتمّاً فحسب بتوحيد الخصم في مواجهته. وغنيّ عن القول إنّ قوى حادّة في لونها الدينيّ أو المذهبيّ، كـ «داعش» و «النصرة» و «حزب الله» والحوثيّين، أدوات نموذجيّة في إحداث فرز مطلق تكمن مقدّماته في تكوين تلك القوى وفي توجّهاتها. والمسار العامّ هذا إنّما نراه اليوم في العراق في أوضح أشكاله. يكفي مثلاً أن تُحمّل عشائر الأنبار مسؤوليّة المذبحة التي أنزلتها «داعش» بأفراد عشيرة البونمر للحكومة المركزيّة في بغداد. ذاك أنّ الأخيرة، كما ترى عشائر الأنبار، لم تستجب نداء عشيرة البونمر وطلبها السلاح والرجال. وتمضي عشائر الأنبار محذّرةً من سقوط مدينة الرمادي في يد «داعش» بسبب استمرار النهج الرسميّ ذاته. فإذا صدقت رواية العشائر كان المعنى أنّ الحكومة، التي يسيطر عليها طرف شيعيّ، لا تحتمل وجود طرف سنّيّ قويّ، مفضّلةً احتكار عدوّتها «داعش»…
الثلاثاء ٢٨ أكتوبر ٢٠١٤
يتقدم تنظيم «داعش» بمخيلة شيطان وبإصرار مؤمن. وفيما هو يمضي في قتاله على جبهة لم تكن مرة موحدة وطويلة كما هي الآن، يتهافت عليه شبان (وشابات) من سائر أنحاء الأرض. فالأمر، والحال هذه، أكثر من فانتازيا ماضوية تخيلنا ذات مرة أنها المعنى الوحيد لـ «الخلافة». يوم الخميس الماضي، نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقاً كتبه ديفيد كيركباتريك عن هؤلاء الشبان الذين يفدون إلى «داعش» من تونس، البلد الأكثر تصديراً للمجاهدين ممن يقصدون سورية والعراق، على رغم أنها تعيش لحظة ثورية تستغرق البلد وتعبئ طاقاته، كما تشي باحتمالات نجاح نسبية لم تُكتب لبقية الثورات العربية. وهذا فضلاً عن أن الوضع التونسي الجديد فتح الباب لتعددية سياسية استعرضت الأحد الماضي آخر انتخاباتها النيابية التي ستتلوها انتخابات رئاسية، ما ينم عن أن ربط الإرهاب بعامل أوحد، هو هنا القمع، قد لا يكون كافياً أو دقيقاً. على أي حال، فإن ما ستكتفي به هذه الأسطر هو نقل بعض عبارات تفوه بها شبان تونسيون أجابوا عن سؤال الصحيفة الأميركية: لماذا الحج الجهادي إلى سورية والعراق؟ «هناك الكثير من العلامات على أن النهاية (نهاية العالم) وشيكة، بحسب القرآن»، يقول أيمن، 24 سنة، الذي كان يسترخي مع أصدقائه في المقهى. وهو، مثل سواه، امتنع عن إعطاء اسمه الكامل خوفاً من مطاردة الشرطة. بلال، عامل في مكتب، كان يجلس في…
السبت ١٨ أكتوبر ٢٠١٤
لا تقع العين على مكان عربيّ إلا ويتبدّى الداخل الوطنيّ وقد اختُزل إلى صفر، أو إلى ساحة للتفرّج على فعل الخارج. فهناك اليوم «الحرب الدوليّة على الإرهاب» التي تجتمع فيها ألغاز لا تحيّر الألباب فحسب، بل تزيد إفقار كلّ إطار وطنيّ وكلّ تثمير سياسيّ محتمل فيه. ويميل الإعلام إلى اختزال تعقيدات السياسة الإقليميّة اليوم إلى صراعات محاور، إيرانيّة – تركيّة – خليجيّة، بعضها مستغلق وبعضها، غير المستغلق، هو ممّا يستحيل التدخّل أو التأثير فيه. واليوم يتصدّر الحدثَ الموضوعُ النوويّ، الغربيّ/ الأميركيّ – الإيرانيّ، والذي يقول «العارفون» إنّه ما يقرّر الكثير ممّا يجري على أرضنا. وهناك أيضاً الموضوع النفطيّ المتمثّل بتدهور أسعار النفط، وهو أيضاً له «عارفون» يقولون إنّ هدفه إظهار حدود القوّة المتاحة لروسيّا وإيران، وربّما إضعافهما بما يتعدّى ذلك. وبعدما ملأت حركة «حماس» الدنيا صراخاً حول انتصار هائل أحرزته في غزّة، إذا بها توافق على شروط يصعب أن يوافق عليها منتصر، ومن خلال مؤتمر دوليّ للمانحين الذين تعهّدوا بتقديم 4,5 بليون دولار لإعادة إعمار القطاع المدمّر. هكذا تنفصل المقدّمات، مرّة أخرى، انفصالاً تامّاً عن الخلاصات، من دون أن يتواضع العقل الماضي في استنتاج هذه من تلك. حتّى فكرة «التحالف»، وهي حجر زاوية في السياسات والحروب، وضعها الموقف التركيّ الأخير من مدينة كوباني على حدود الأحجية. ويزيد في إسباغ العجائبيّة…
الثلاثاء ٠٧ أكتوبر ٢٠١٤
في 1948 ولدت إسرائيل. هذه الدولة الغريبة هزّت مفاصل المنطقة، لكنّها لم تقض على الدول القائمة وعلى خريطتها كما ارتسمت بعد الحرب العالميّة الأولى. هكذا، وعلى رغم العداء المتبادل والحروب، اندمجت إسرائيل، ولو اندماجاً ضدّيّاً، في نظام المنطقة العريض. في 1958 قامت الوحدة المصريّة–السوريّة بزعامة عبدالناصر. لكنّ هذه الوحدة بدل أن تُسقط الحدود وخريطة «دول التجزئة»، سقطت هي نفسها قبل أن تحتفل بعيد ميلادها الرابع. لقد لفظتها خريطة كانت تملك من أسباب القوّة ما لا يُبديه الظاهر دائماً. وكاستطراد على انهيار الوحدة، اندلعت في اليمن «الحرب الأهليّة العربيّة الأولى»، على ما سمّاها البعض، ولم تسقط الخريطة ولا انشقّ اليمن. في 1967 كان الحدث المزلزل: ثلاث دول عربيّة، في عدادها مصر الناصريّة، تنهار أمام الدولة العبريّة. الأمر لم يستغرق أكثر من ستّة أيّام احتُلّت فيها الضفّة الغربيّة وسيناء والجولان. مع هذا لم تُمزّق الخريطة فيما توافق العالم على أنّ الاحتلال ناشز، وأنّ الطبيعيّ عودة ما احتلّ إلى أمّه الخريطة. وفي 1975، وبعد خمس سنوات على تمرين أردنيّ–فلسطينيّ عابر، افتتح اللبنانيّون والفلسطينيّون زمن الحروب الأهليّة المفتوحة التي استدرجت أطرافاً لا حصر لها، جيوشاً محتلّةً ومالاً وسلاحاً ومخابرات. لكنّ لبنان لم يُقسّم، وما بين 1982 و2000 مكث سكّانه ينتظرون إدراج أراضيه المحتلّة داخل خريطته. نجاة الدولة العربيّة القائمة وصون خريطتها لم ينجما عن…
الثلاثاء ٢٣ سبتمبر ٢٠١٤
«الحوثيّون»، أو «أنصار الله»، يستولون أخيراً على العاصمة صنعاء ومؤسّساتها ووزاراتها، ويُحمل رئيس الجمهوريّة عبد ربّه منصور هادي على توقيع «تسوية» معهم هي، في أغلب الظنّ، تعبير عن إقراره بتوازنات القوى الجديدة. في الوقت نفسه تمضي «داعش» في سبيلها، كأنّها غير معنيّة بتشكيل حلف دوليّ ضخم لمقاتلتها. وهي، بعد احتلالها أكثر من ستين قرية، تطوّق كوباني (عين عرب) الكرديّة السوريّة وتهدّد أهلها الذين فرّت أعداد ضخمة من مدنيّيهم الذين لم يبق أمامهم إلاّ النزوح. تطوّران كبيران دلالاتهما، بطبيعة الحال، أبعد من السياسات الدائرة وتحالفاتها وخصوماتها. فمن العلاقات الأهليّة إلى الثقافات الموضعيّة والدين وشروط النصر والهزيمة، تتجمّع في هذين النصرين مروحة عريضة من المسائل. لكنْ في حدود السياسات والتحالفات المعنية، يمكن أن نلحظ أموراً لافتة تجري في موازاة الحربين الداعشيّة في الشمال والحوثيّة في الجنوب. فهناك ما يوحي أنّ المتضرّرين من هاتين الحربين يحاولون رتق ما هو ممزّق وتظهير ما هو غامض في جبهتهم المفترضة بما يتيح الانتقال إلى شروط مواجهة تكون أفضل. من ذلك، مثلاً، أنّ إمارة قطر التي طلبت من بعض الإخوان المسلمين المصريّين المقيمين فيها مغادرتها، برّدت هجومها الإعلاميّ والسياسيّ على مصر ورئيسها السيسي، أو حُملت على ذلك. وغير بعيد عن قطر، ظهرت مبادرة وليّ العهد البحرينيّ التي طرحت على نفسها إنهاء الأزمة في بلاده. وإذا كان من…
السبت ٢٠ سبتمبر ٢٠١٤
حين يتخيّل المرء دولة لبنانيّة مثلى، دولةً لم تُكتب لها الحياة للأسف، يتخيّل هاني فحص مواطناً فاضلاً فيها. فـ «السيّد هاني» الذي رحل عن دنيانا قبل يومين، كان يجمع في شخصه الصفات التي تجعله ذاك المواطن الفاضل. فبوصفه رجل دين، كان صاحبنا صديقاً لكلّ حوار، حاضراً فيه بشكل أو آخر. الجميع كانوا أصدقاءه إذا شاؤوا ذلك، يستطيع أن يميّز في علاقته بهم بين الخلاف السياسيّ حين يوجد، وبين الأبعاد الأخرى التي يُفترض بالكائن الإنسانيّ أن ينطوي عليها. ولأنّ الصورة المترسّخة لدينا عن رجل الدين موسومة بالتزمّت وبالميل إلى احتكار الحقيقة، بدا هاني فحص لنا دوماً كأنّه، برحابته وتمدّنه وحواريّته ومرونته، كأنّه مسجون في ثوب رجل دين. وهو بدوره كان يضيف إلى هذا كلّه ما يؤنسن رجل الدين، فهو صاحب فكاهة وسخرية تشهد عليهما مجالسه. إلاّ أنّه أضاف أيضاً فائضاً من الحيويّة يدلّ إليه تاريخه السياسيّ والشخصيّ، فكأنّه يقول بهذا إنّ الأمور لم تكتمل بعد ولم تتمّ، وإنّ ثمّة نشاطاً ما لا يزال بذله مطلوباً. وانحيازه هذا إلى المبادرة وإلى التدخّل الإنسانيّ للتغيير جعله على نحو دائم كأنّه يتلصّص ويتنصّت على ما يجري حوله، ويستخدم حواسّه كافّة لفهم ما يطرأ أو يستجدّ. وبقدر حماسته لهمّ الحوار بين الناس والناس، والأديان والأديان، والمذاهب والمذاهب، كان متحمّساً، وهو الكاتب والمؤلّف، لصلة حميمة وراهنة…
السبت ٣٠ أغسطس ٢٠١٤
بعيداً عن نظرية المؤامرة الرائجة عندنا، وبعيداً كذلك عن أيّ مشاعر قوميّة أو شوفينيّة عربيّة مناهضة للإيرانيّين، يمكن القول إن الصعود الخميني البادئ مع إطاحة الشاه في 1979 كان السبب الأبرز والأهم في التصدع الذي تعانيه اليوم بلدان عربية كثيرة. وهنا لابد من استدراك أساسي: فالحكم الإيراني لم يخترع بالطبع تناقضات العالم العربي الكثيرة، ولا هو استجلبها علينا انطلاقاً من عدم. ذاك أن تلك التناقضات موجودة وقديمة وصلبة التأثير، إلا أن الحكم المذكور وسياسته كانا السبب الخارجي الأبرز في تعريض بعض المجتمعات العربية لامتحان قاسٍ أفضى إلى تفجير بعضها وتعريض بعضها الآخر للانفجار. وذلك بالضبط لأن ذاك السبب الخارجي استطاع، من خلال تفاعله مع دواخل تلك البلدان ومع عصبياتها وتراكيبها الأهلية، أن يتحول سبباً داخلياً أيضاً. ففي حقب ما بعد الاستقلالات العربية، وعلى رغم هشاشة النسيج الوطني القائم في معظم بلداننا، تمكنت الحرب الباردة واستقطابها من أن تصون الخريطة على الشكل الذي ارتسمت عليه بعد انهيار السلطنة العثمانية. وهنا يمكن استرجاع ثلاثة تحديات كبرى فشلت في أن تفجر الخريطة القائمة، على رغم كل ما أحاط بها من توقعات بالغة التشاؤم: • أولاً، في 1948 حين قامت إسرائيل بعد الانسحاب البريطاني من فلسطين الانتدابية، لم يتأدّ عن نشأة «دولة لليهود» تفسخ أيٍ من بلدان الشرق الأوسط العربي على أسس دينية وطائفية…
الثلاثاء ١٩ أغسطس ٢٠١٤
العنف بالغٌ أقصاه اليوم في عموم المنطقة العربيّة. وهو، بذاته، ليس جديداً علينا. فلو اقتصرنا على الأنظمة التي سادت في الخمسين عاماً المنصرمة لوجدناه أعظم سلعة نستورد من تجارب التوتاليتاريّات الغربيّة، وأعظم سلعة نصدّر إلى بلدان مجاورة تحاول الاقتصاد في بذل العنف. لقد كنّا دائماً في عرضه واستعراضه كرماً على درب. لكنّ المشهديّة الصارخة للعنف كما تمارسه حركات كـ «داعش» وأخواتها تعطيه مزيداً من الأبعاد والمعاني: فهنا نحن أمام زواج كامل بين أقصى الهمجيّة النازحة بنا إلى أزمنة خلت، وبين حداثيّة أداتيّة تتجسّد في السلاح والتراتُب والتنظيم والاستخدام الموسّع لوسائل التواصل الاجتماعيّ، فضلاً عن العقيدة. إنّها البربريّة وقد استعانت بأضراس صناعيّة. ونبذ الآخر وصل أيضاً إلى أقصاه في المنطقة العربيّة. وهذا، بدوره، ليس جديداً: فأكراد العراق سبق أن ضُربوا بالسلاح الكيماويّ، وأقباط مصر سبق أن اعتُبر عددهم سرّاً من أسرار الأمن القوميّ لمصر، ومسيحيّو لبنان سبق أن وُصموا بانعزاليّة ودُُفّعوا غالياً مقابل التهمة هذه. لكنّ ما يحصل اليوم يرقى إلى انتقال من طغيان الإبادة السياسيّة والثقافيّة للجماعات المختلفة إلى طغيان الإبادة الجسديّة لها. فهذا ما تقوله أحوال المسيحيّين والإيزيديّين والشبك وسواهم في العراق، وهذا ما تخافه أقلّيّات أخرى تتوزّع ما بين مصر والعراق. لقد باتت تطالعنا محاولات صريحة لـ»إبادة النسل»، لا من خلال القتل والذبح فحسب، بل أيضاً عبر التزويج…
السبت ١٦ أغسطس ٢٠١٤
تحت وطأة الأوضاع العربية الراهنة، لاسيما ذاك الإحباط المتفشي بسبب النتائج التي أفضت إليها ثورات «الربيع العربي» في غير بلد، ثمة ميل عربي متعاظم إلى مراجعة «تاريخنا» مأخوذاً بالجملة كقطعة واحدة لا تقطُّع فيها ولا انقطاع، وذلك بحثاً عن مسؤوليةٍ ما يتحملها هذا التاريخ عما آلَ بنا إليه من تردٍ. ويُلحَظ في عموم هذه المراجعة، وهي لا تزال في بداياتها على أية حال، وجود ثلاثة أصوات مختلفة يركز كلٌ منها على حقبة تاريخية بعينها وينظر إليها بوصفها مصدر ما نعانيه. فهناك من يذهب إلى تاريخ ما قبل الاحتكاك بالغرب، وهذا زمن مديد جداً ينطوي على حقب عدة ليست بالضرورة متجانسة في وجهتها أو في المعاني المفضية إليها، بل هي متنافرة في الكثير من وجوهها. وإنما بسبب هذا التنافر في أمور عدة، يسهل توحيد ذاك التاريخ بالإسلام، كونه العقيدة الجامعة على امتداد الحقب تلك، والأساس الذي ارتكزت إليه على نحو أو آخر محاولات الهندسة الاجتماعية والسياسية التي جرت تباعاً. وعلى نحو وثيق الصلة بالثقافة، يمكن التوقف عند نظام القرابة العربي وقيامه على عصبية الدم، مما زاد في التضييق المديد على نشأة مجتمع سياسي يتقدم فيه المواطنون الأفراد بوصفهم كذلك. وما من شك في أن ما عزز ويعزز هذا اللون من النقد صعود حركات الإسلام السياسي الراديكالية كجبهتي «النصرة» و«داعش»، وتوسع نفوذها…
السبت ٠٩ أغسطس ٢٠١٤
تناول عدد معتبر من المعلّقين العرب والإسرائيليّين وسواهم تحوّلات الرأي العامّ الأوروبيّ بعد حرب غزّة. ولئن ساد نوع من الإجماع المُحقّ على أنّ إسرائيل خسرت معركة الرأي العامّ الأوروبيّ، وهذا مكسب كبير من حيث المبدأ، لم تظهر آراء جازمة في ما خصّ الطرف المستفيد من خسارة إسرائيل أو القادر على توظيفها واستثمارها. ففي أواخر الستينات وفي السبعينات، كان الكلام على الرأي العامّ الغربيّ وضرورة كسبه يستند ضمناً إلى وجود طرف يمكنه، ولو نظريّاً، أن يكسب. وكان الطرف المذكور والمعوّل عليه هو «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في ظلّ قيادة غير دينيّة على رأسها، وفي ظلّ اندراجها في حركات التحرّر الوطنيّ من روديسيا (زيمبابوي) وجنوب إفريقيا إلى أنغولا والموزامبيق انتهاء بفيتنام وكمبوديا ولاوس. فعلى اختلاف هذه الحركات، والتباين بين واحدتها والأخرى، تضافر وجود الحرب الباردة والطلب العالميّ الواسع على نزع الاستعمار لتوسيع مؤيّديها وخدمة أغراضها. لكنّ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» لم تستطع أن تكسب المعركة التي كسبتها الحركات الأخرى، ليس فقط لأنّ الرأي العام الغربيّ رفض تصنيف إسرائيل استعماراً، بل أيضاً بسبب الحماقات والأعمال الإرهابيّة الفاقعة، بل المطنطنة، التي اعتمدتها فصائل وجماعات تابعة للمنظّمة أو محسوبة عليها. فسياسة خطف الطائرات لوديع حدّاد و»جبهته الشعبيّة»، منذ أواخر الستينات، ودورها في تفجير حرب الأردن في 1970، ثمّ عمليّة ميونيخ لـ «أيلول الأسود» في 1972، في بلد…