الخميس ٢٢ نوفمبر ٢٠١٢
تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن الجناح السعودي في معرض الشارقة الدولي للكتاب، والجهود التي بذلت من قبل الملحقية الثقافية السعودية بالإمارات لإنجاح المشاركة وتقديم حالة ثقافية مختلفة، بمتابعة مباشرة وحضور متواصل للملحق الثقافي الدكتور صالح السحيباني الذي لم أكن أعرفه من قبل، لكنه والحق يقال تمكن مع فريق العمل من إخراج الملحقية الثقافية من عملها النمطي المكتبي المتعارف عليه، ومن الفكرة السائدة بأنها تكتفي بالإشراف الأكاديمي والمالي على الطلاب المبتعثين وتسيير أمورهم في الخارج، منتقلا بـ"سفينة" الملحقية إلى العمل الثقافي الحقيقي كما هو مسماها. و"السفينة" التي تشكل بتصميمها الجناح السعودي بالمعرض، لها حكاية وفلسفة أدت إليها. وهي طبقا للسحيباني ترمز إلى أن "المشهد الثقافي السعودي كغيره متحرك كالسفينة يؤثر ويتأثر إيجابا، ومنه خرج المبدعون والمفكرون والكتاب، كما أن السفينة في غدوها ورواحها تربط بين الدول وتقوي العلاقات وهي متحركة للأحسن، فضلا عن أننا يجب أن نتفاعل مع تطور معرض الشارقة من سنة لأخرى ولا نقف جامدين، بلدنا كبير بإمكانياته كبير بإرثه كبير برجاله إذا أخلصوا في خدمته". من خلال التجربة التي عايشها الجمهور والضيوف من أدباء ومثقفين في معرض الكتاب بالشارقة، يفترض بالملحقيات الثقافية أن تضيف الفعل الثقافي إلى صلب مهامها، وذلك يأتي إذا أعطيت الصلاحيات للقائمين عليها بأن تشارك في الفعاليات وتنظمها، وحبذا لو خصصت قاعة في مبنى…
الجمعة ١٦ نوفمبر ٢٠١٢
في جناح السعودية بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، يعيش الزائر الحالة الثقافية ببساطتها. فمنذ اللحظة التي رحب بي فيها الملحق الثقافي السعودي الدكتور ناصر السحيباني وما تلاها من حديث جميل، لمست حبا كامنا داخله للمكان ورغبة في متابعة كل التفاصيل بما يقدم من صورة واعية عن الثقافة السعودية، يشد عبرها ضيفه إلى آفاق يعود في بعضها إلى زمن البدايات وينتقل في غيرها إلى ما يجب أن يكون... وبالتمازج بين الرؤيتين يرتسم الإنسان والمكان. الجناح السعودي الذي تشرف عليه الملحقية الثقافية السعودية بالإمارات يشكل نموذجا لكيفية المشاركة في معرضٍ للكتاب، فالمشاركة ليست عرض كتب فقط، وإنما هي أيضا ثقافة وصورة حاضرة وحوار ثري. في الدور الثاني من الجناح يقع الصالون الثقافي الذي يرتاده الكتاب والمبدعون من مختلف الدول العربية حيث يتبادلون الأحاديث ويتحاورون في المعرفة وغيرها، كما يأتي زوار المعرض الذين يستهويهم الحوار. في الصالون التقيت مجموعة من المثقفين والأدباء العرب، كالروائي السعودي محمد المزيني والممثل السعودي عبدالعزيز المبدل، والكاتبة المغربية زهور كرام والمثقفة الجزائرية زهور ونيسي وآخرين من مصر والإمارات، ولم يسعفني الحظ بلقاء الصديق الروائي والصحفي علوان السهيمي، إذ فصلت دقائق بين مغادرتي ووصوله، لكنه بادر بالاتصال بعدها بمحبته المعتادة... وهكذا أعطاني الجناح شعورا بأنه كتلة متجانسة لا تهدأ حركتها. الجناح في حقيقته لم يكن جناحا، بل كان سفينة. ويبدو…
الخميس ٠٨ نوفمبر ٢٠١٢
تكثر النصوص الأدبية النثرية وكذلك الموزونة في الكتابات الرافدية القديمة بحضاراتها المتعاقبة، ومنها ما يماثل الشعر العربي في تفعيلاته. وقد كتبت في ذلك دراسات كثيرة مثل ما أورده الراحل طه باقر في قراءته لملحمة جلجامش من أن الشعر في أدب الرافدين القديم، السومري والبابلي، خضع لطريقة خاصة في الكتابة وكان يتألف من أبيات، كل منها يتكون من شطرين موزونين، ولكن القافية غير موجودة، أي إنه يشبه شعر التفعيلة. وهنا تجدر الإشارة إلى ما رآه الشاعر العراقي صلاح نيازي في قراءة مختلفة لنصوص ذكرها باقر ومنها خطاب سيدوري إلى جلجامش: "سابينُم أنّا شاشمْ أزْكرّا أنا جلجامش جلجامش ايشْ تَدال بلْطمْ شا تَسخوّرا لا تُنَّا حِنُما ايلاني ابْنو أويليتمْ ماتَمْ أشْكونو أنا أويليتمْ بلْطمْ أنا قاتيشوتو اصبطو انّا جلجامش لو ملئي كرَشْكا اورى وموشي خِدّادو أنّا". والترجمة العربية لها: "يا جلجامش إلى أين أنت سائر لن تجد قطّ الحياة التي تنشد فالآلهة حينما خلقوا البشر كتبوا عليهم الموت واحتفظوا بالخلود لهم يا جلجامش دعْ معدتك تكون ممتلئة وانشرحْ ليل نهار". وفي تقطيع النص بلغته الأصلية يتضح أن التفعيلات جاءت على وزن فعْلُنْ، وعددها يختلف بين شطر وآخر، إذ يحتوي الشطر الأول على سبع تفعيلات، ومقطع زائد، بينما يحتوي الشطر الثاني على أربع تفعيلات، وتتكرر زيادة مقطع في الأشطر الثالث والرابع والخامس والسابع،…
الخميس ٠١ نوفمبر ٢٠١٢
مثل جواد جامح ينطلق في براري مخيلته ليخط دربا خاصا به، وفي إصداره الجديد و"غير الجديد" المعنون بـ"المختصر من سيرة المندي المنتظر"، أعاد الكاتب أحمد عبدالرحمن العرفج ـ بأناقة ـ ترتيب بعض أوراقه ومقالاته المنشورة. وأحسبه يعني ما يعنيه إذا بدأها بمراده من إخفاء تاريخ ميلاده، ليضرب بحنكة أكثر من عصفور بحجر. فالميلاد بداية ومثله المقال، وحكاية يوم ميلاده الضائع رسالة عن بساطة زمن نشأته عبر بدائية أسلوب التأريخ. ثم أكمل الحكاية بقليل من تفاصيل طرائف طفولته، ليبث فينا بأسلوب ساخر حالة العوز التي كان يعانيها غير متحرج من ذلك داعيا الجميع إلى الفعل ذاته. يغوص العرفج في علل المجتمع وطبائع بعض شخوصه، فيحذر ممن لا ينشرون الأمل والسعادة، وممن ينهبون أفكار الآخرين أو لا يحترمون الوقت، وممن "يتفشخرون" عند منع مقالاتهم من النشر، مؤكدا أن فهم الخطوط العامة، وإدراك شبكات الفهم عند القراء، ومعرفة خط الصحيفة ونَفَسها جزء من مهارات الكتابة. أبواب سخرية العرفج أكثر من أن تعد، فهو حتى في تصنيفاته للكروش، لا يغفل الغمز من أصحاب "الربا" و"لصوص الأراضي"... ومن أجمل ما فيه أنه يستلذ بالهجوم "المحبب" على ذاته، وهل أدل على ذلك من قوله "أحمد كتابيا هو المختل عقليا"؟ * * * بقية الحديث: ....... وأما العوسج فهو النبات المعروف، وأما العرفج فهو "عامل المعرفة". وتكثر…
الخميس ٢٥ أكتوبر ٢٠١٢
على الرغم من أن بيته الشهير عن العيد صار مكرورا لدرجة الملل من كثر استخدامه، إلا أن المتنبي كان على حق فيه، ومن يتابع المشهد الدموي في سوريا يدرك ذلك. فالشعب ينتظر "التجديد"، لأنه ثار ضد "ما مضى". كتبت ذات يوم في "الوطن" منذ خمس سنين أن الظروف جعلت من المتنبي شخصا "نكديا" ما أطلق براكين الحزن لديه، وعبر مقدرته الشعرية ترسخ ذلك الحزن في مساحات واسعة من الحضور اللحظي لدى كل الأجيال التي جاءت بعده... وبعد مشاهد الحزن السوري لا عتب على أي شخص إن تقمص حال المتنبي في الحزن، فالألم أكبر من أن يوصف والوجع يحتاج عقودا ليتزحزح قليلا. أما الدمار، فالأمل كبير بأن يترك "الطاغية" شيئا يرتكز عليه الجيل الجديد ليبدأ مرحلة البناء. كلما اقترب العيد يبدأ بعض الكتاب بانتقاد من اختزلوا العيد برسالة جوال يهنئون فيها الأقارب والأصدقاء، والطريف أن معظم هؤلاء يمارس الطقس نفسه باختزال العيد. أما المؤلم فهو أن الطاغية هناك يقطع الاتصالات، فلا يستطيع أحد أن يتواصل مع من يحب سواء كان مغتربا أم مقيما داخل وطن لا يمتلك القدرة داخله على زيارة المنزل المجاور لئلا تنهي حياته رصاصة قناص، أو برميل متفجر. ما بين مفرقعات كم فرح بها الأطفال أيام العيد، وبين قنابلهم ثمة حكاية. فالانفجارات موجودة هنا وهناك، غير أن الأولى…
الخميس ١٨ أكتوبر ٢٠١٢
قبل وبعد قفزة المغامر النمساوي "فيليكس بومجارتنر" منذ أيام في نيومكسيكو بالولايات المتحدة الأميركية، كثر الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي عن تحطيم قوانين الفيزياء، وبالغ البعض فقالوا إنه حطمها كلها، وزاد البعض بأن سخروا من العالم إسحق نيوتن صاحب قانون الجاذبية الأرضية وبعض قوانين الحركة، وكالوا له الشتائم لأنه برأيهم "لا يفهم" ولأن قوانينه التي "عقدتهم" في المناهج لم تكن صحيحة. ولعلهم تأثروا بذلك من تعليق المذيعَين (شاب وفتاة) غير المتخصصَين أو الدارسَين للحالة، المصاحب للحدث على القناة التي نقلت دقائق القفزة، وهما من جهتهما ربما تأثرا بأحاديث غير علمية تناقلتها المواقع واطلعا عليها شأن الآخرين. فقام العقل الجمعي بتقزيم العلماء وفي مقدمتهم نيوتن، من غير أن يعرفوا أن القفزة تعزز من نظريات سقوط الأجسام، وتوسع مجالاتها تبعا للظروف المحيطة بالجسم المتحرك، وتدعم نظرية الجاذبية الأرضية ضمن طبقات الغلاف الجوي. إشكالية الكثير في مجتمعاتنا أنهم تحولوا إلى متلقين فقط، من غير أن يشغلوا عقولهم في الفكرة التي أمامهم. فمن حيث المبدأ لا أحد ينكر أن قفزة فيليكس تجربة علمية مفيدة للبشرية، والمغامر الذي عرض حياته للخطر لم يكن قادرا على القيام بقفزته لولا جمع كبير من العلماء الذين ساعدوه في كل شيء منذ إعلانه عن التجربة، وحتى لحظة هبوطه على الأرض. والغريب أن البعض منا لا يدري أو ينكر اعتماد…
الخميس ١١ أكتوبر ٢٠١٢
هل فقدت جائزة نوبل للآداب التي تعلن اليوم نتيجتها لهذا العام بعض وهجها الذي كان يحيط بحامليها، أم إن هذا الوهج كان يأتيها من الأسماء البارزة التي تفوز بها؟ مثل هذا السؤال يصبح مشروعا إذا تتبعنا الأسماء الفائزة بها ما بعد عام ألفين، فقليلة هي الأسماء المؤثرة التي حققت الحضور قبل الفوز وبعده على المستوى العالمي وليس المحلي، لأن الحديث هنا عن أهم جائزة عالمية. وباستثناء التركي أورهان باموك الحائز على الجائزة عام 2006، لا نكاد نرى اسماً نستطيع القول بثقة إنه أديب عالمي. وهذا الأمر يختلف عن الأعوام السابقة، إذ نجد من تركوا بصمة واضحة بكتاباتهم مثل الألماني غونتر غراس، والبرتغالي خوسيه ساراماغو، والمصري نجيب محفوظ، والنيجيري وولي سوينكا. وقبلهم الكولومبي جابرييل غارسيا ماركيز، والتشيلي بابلو نيرودا، والأيرلندي صموئيل بيكيت، والفرنسي جان بول سارتر الذي رفض استلام الجائزة... وغيرهم. وهج نوبل الذي يخبو تدريجيا، يصاحبه تراجع من الجائزة في الاهتمام بالشعر كواحد من أهم الفنون الكتابية. وبالرغم من عودة الشعر إلى التتويج العام الماضي عبر فوز الشاعر السويدي توماس ترانسترومر، بعد 16 عاما على فوز الشاعرة البولونية شيمبورسكا بالجائزة، إلا أن سيطرة الروائيين على السنوات الأخيرة كانت واضحة. ومن الخلل أن يغيب الشعراء عن الفوز بجائزة نوبل كل تلك السنوات. قد يقول قائل إن الزمن هو زمن الرواية، ربما…
الخميس ٠٤ أكتوبر ٢٠١٢
في مختلف الظروف يكون الأدباء الحقيقيون لسان حال الناس، فيوثقون للمرحلة عبر أعمال روائية وقصصية وشعرية. ومن حكايات تاريخ الإنسان والمكان التي يدونونها تعرف الأجيال اللاحقة ما جرى ذات زمن. وكم من الأزمات والكوارث أو الإنجازات في مراحل من تاريخ الدول عرفنا كثيرا من خفاياها من كتابات المبدعين. في سورية، لا يعمل النظام اليوم على تكميم أفواه الأدباء فقط، بل قد يقتلهم ويسجنهم، ولعله بذلك يريد القضاء على الأسماء القادرة على كتابة تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها المنكوبون والمشردون من أعماله ومجازره وقذائفه وصواريخه في حرب يشنها ضد شعب لم يطلب أكثر من الحرية، ويعتزم النظام بآلته الحربية أن يجعل الشعب يدفع ثمن الحرية باهظا كما لم يدفعه غيره. اعتقل النظام كثيرا من الكتاب والمثقفين في أغلب المدن وقتل بعضهم، وهنا سأتحدث عن دير الزور المحاصرة التي بدأت أخبارها أخيرا تظهر على وسائل الإعلام، فما يصل من أخبار أدبائها الذين عرفوا بالتصاقهم بالأرض والبشر، يشير إلى وجع كبير ألمسه من قصائد تميم صائب الغارق في الألم والأمل، وأشعار ناظم العلوش المشرد خارج مدينته، وقبلها اعتقال الشاعر قاسم عزاوي في بداية الأحداث لإسكاته، وبعده الروائي عبدالناصر العايد، وغيرهم... كم عايش أولئك الأدباء هموم المساكين في مدينتهم وريفها، ومن ذلك مؤلفات رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب محمد رشيد الرويلي مثل "هدباء" و"المعادة"…
الخميس ٢٧ سبتمبر ٢٠١٢
الوطن كائن مرئي محسوس وملموس. تشم دفئه بالروح وترى خلاياه تنبض داخلك. والوطن عشق أكبر، تندرج فيه المشاعر كلها. هو في لحظة ما يبدو عملاقا يحميك، وفي أخرى يكون أنثى تحتضنك. ثمة وطن يطرّز يومه الوطني بالفرح والعزّ عبر احتفاليات وفعاليات ثقافية ومجتمعية تملأ مختلف مناطقه ومدنه وقراه. وفي المقابل ثمة وطن يناضل شعبه للخلاص من "المستبد"، ويجاهد ليصنع بدم أبنائه يوما وطنيا جديدا تحتفل به الأجيال اللاحقة. وفي كل من الصورتين تتصدر الجماهير المشهد. هنا تحتشد في الطرقات والساحات بهجة، وهناك تحتشد في مظاهرات ضد طاغية قرر تخريب الوطن قبل أن يرحل. في الحالة الأولى، كتب الشعراء قصائد تعمّق انتماءهم لوطنهم، ونقشوا حكايا النهضة مذ بدأ وطنهم خطواته الأولى إلى أن تجاوز تأثيره منطقته، وبات العالم يحسب له ألف حساب. وفي الحالة الثانية كتب الشعراء قصائد حالمة بالخلاص من الاستبداد، وصاغوا من قاموس الشتائم ما رأوه يناسب طاغية جعل من وطنهم رمزا للاصطفاف الطائفي باسم "الممانعة"، ومنطَلقا لتحالفات سياسية تحقق غاية من يحلمون بإعادة أمجاد إمبراطوريات هزمها الأجداد الفاتحون. الوطن كائن قد يهتز طربا فتغني معه، وقد يتألم فتكويك الأوجاع. وفي الحالتين تجد أنك تماهيت فيه وانصهرت حتى صرتما واحدا. وفي الوطن مكان رسخ بالذاكرة، ترتسم فيه الطفولة ومراحل العمر، مكان هو الألفة واللهفة والجمال.. تحنّ إليه ولا تحس…
الخميس ٢٠ سبتمبر ٢٠١٢
قبل زمن الإنترنت والفضائيات وانفتاح الإعلام، حاول الخطاب البعثي القومي "العروبي" الممانع في سورية في مرحلة السبعينات والثمانينات تكريس بعض المصطلحات الثقافية ليحول من حالته ملاذا ومصدرا أوحد لمثقفي البلد. لكن المثقفين الجادين لم يعتمدوا عليه في استقاء معلوماتهم، فاتجهوا إلى الصحف والمجلات الخليجية التي كانت تصل إليهم حاملة رؤى وأنشطة وإبداعات كـ"القبس" الكويتية و"الجزيرة" السعودية ومجلتي "العربي" والدوحة" ليكتشفوا أن من كانوا يظنونهم مجرد "مثقفي الطفرة" ليسوا إلا مثقفين حقيقيين يحملون الهم المعرفي والعصري والحداثي مثل نظرائهم في الدول العربية التي كانت تعتبر آنذاك دولا مصدرة للثقافة.. وأذكر أن جيلي في جامعة حلب خلال الثمانينات كان يحرص على اقتناء صحيفة "الجزيرة" لما فيها من زخم وجدل وكتابات جادة وأسماء صاعدة واعية لم تكن مشهورة آنذاك مثل شهرة الأسماء الحداثية في سورية ومصر، لكنها استمرت وصار عدد من أصحابها اليوم يحتلون مواقع الصدارة في المشهد الثقافي والإعلامي والفكري على المستوى الخليجي ولا أبالغ لو قلت: والعربي أيضا. مشكلة خطاب "البعث" أنه بعد سنوات القمع كان يظن أنه قادر على تسييس العقول بـ"ممانعته" ولعله استطاع أن يفعل ذلك مع الكثير، لكنه لم يسيطر على الجميع، فكان البعض ضد مساراته، ولو أضفنا إليهم من تأثروا بالنزعة العروبية القومية من غير أن ينخدعوا بادعاءات الممانعة لوجدنا أنفسنا أمام أكثر من تيار، يجمعها تقريبا…
الخميس ١٣ سبتمبر ٢٠١٢
ليت زيارة الممثلة السينمائية ومبعوثة الأمم المتحدة الخاصة أنجلينا جولي مؤخرا لمخيم الزعتري، حيث يوجد عشرات الألوف من اللاجئين السوريين، تحفز غيرها من الفنانين والمبدعين للقيام بزيارات مماثلة. فهناك عدد هائل من القصص التي يحملها من اضطروا للهروب بعائلاتهم من الموت بعد تدمير بيوتهم وأحيائهم إلى حيث مرارة العيش اعتمادا على المساعدات الإنسانية الدولية في بلد النزوح. قصص أحسب أن الكتابة عنها ونشرها ورسمها وتصوير رواتها وبثها إعلاميا وما إلى ذلك ربما تحرك الرأي العالمي تجاه ما يحدث في سورية من أعمال النظام المسلح ضد الشعب الأعزل. شعب لم يتخلّ عن سلميته منذ بدء الثورة التي قابلها النظام بالرصاص الحي ثم القنابل والمجازر ثم قذائف الدبابات وأخيرا القصف الجوي المدمر. شعب اضطر بعض أبنائه من العسكريين لحمل السلاح دفاعا عن انتهاك أعراضهم وقتل أهاليهم، فأي حكايات يحملها مَن شهدوا الأحداث وتهجروا ليصبحوا من غير مأوى لولا مساعدات أهل الخير في دول الجوار والعالم العربي والمنظمات الدولية الإنسانية. أتخيل أن الأدباء والفنانين الأحرار في العالم من عرب وغير عرب عايشوا أحوال اللاجئين وقصصهم، ثم أقاموا من خلال المنظمات العربية والدولية أسابيع سينمائية ومعارض فنية ومهرجانات أدبية بمختلف اللغات لطرح معاناة الشعب السوري بطريقة إبداعية. هنا ربما يحدث التلاحم الإنساني بين الشعوب التي ستلمس حقائق قد تكون مغيبة عنها. فالمبدعون يعبرون ويؤثرون…
الخميس ٠٦ سبتمبر ٢٠١٢
لم تنبع الكتابات الساخرة خلال "الربيع العربي" من فراغ، ففكرة الحرية تراود الإنسان منذ القديم، والمبدعون صبوا هواجسهم لتحريك الناس نحو مجتمعات مثالية تُحترم فيها الحقوق. ولو نبشنا التاريخ الحضاري لوجدنا مبدعا بابليا مجهولا يعد رائدا عبر نص رائع يعود إلى الألف الثانية قبل الميلاد، جاء على شكل حوار بين سيد وخادمه، يؤكد الرقي الأدبي لإنسان "الرافدين". فإسقاطاته الصالحة لكل زمان ومكان تجعلنا نشعر بأنه كُتب اليوم، وهي تنطبق على مسببات "الربيع العربي" وتضع الطغاة في مأزق بفضح تناقضاتهم، وكأني بالكاتب تحايل على القمع في زمنه، فلجأ للّعب على ثنائيات السلوك البشري عبر تأييد الأقوال المتضاربة لصاحب السلطة. فهو حين تحدث عن الفساد والأخلاق لدى طبقة السادة، كتب: ( أيها الخادم أصغ إليّ. ـ نعم سيدي، نعم. سأمارس أعمالاً غير مستقيمة. ـ افعل ذلك، افعل. فإنك إذا لم تأت أعمالاً غير مستقيمة، من أين لك بلباسك؟ كلا أيها الخادم، لن أمارس أعمالاً غير مستقيمة. ـ لا تمارس عملاً غير مستقيم، سيدي، لا تفعل ذلك. من يفعل ذلك إما أن يُقتل أو يُسلخ جلده. إما أن تُقتلع عيناه أو يُرمى في السجن.) وفي مقطع آخر، يتحدث عن المساواة والعدالة: ( أيها الخادم، أصغ إلي ـ نعم سيدي، نعم سأقوم بعمل صالح يخدم بلادي ـ افعل ذلك سيدي، افعل، لأن من يقدم…