سمير عطا الله
سمير عطا الله
كاتب لبناني

إحياء القضية

الأحد ١٦ مايو ٢٠٢١

كلما بدا أن القضية الفلسطينية قد خبت حول العالم، يأتي من يعيدها إلى الأذهان والضمائر. الشهيد كمال ناصر كان يقول في سخريته المعروفة: سوف تبقى القضية حية. اتكلوا على القومية الإسرائيلية. «التفوق» الإسرائيلي قادر على الغباء هو أيضاً. الشديد منه كذلك. ألهبت حكومة نتنياهو مشاعر المسلمين حول العالم وهم يستكملون رمضان ويدخلون العيد. ومِن أين؟ من القدس والمسجد الأقصى. وبذلك لم تتحد كالمعتاد الكرامة الفلسطينية، بل كرامة الفلسطينيين الأوائل الذين يُسمون بكل جلافة «عرب إسرائيل». وهكذا وقفت إسرائيل على حافة «حرب أهلية» في مدنها الرئيسية. بعد غياب طويل عادت المظاهرات المؤيدة للقضية إلى مدن أوروبا وأميركا. تذكر الضمير العالمي أن في الشرق الأوسط شعباً خُطفت أرضه وتُرك بلا دولة. وتذكر أن الاستيطان والترحيل وتدمير المنازل سياسة قائمة. ورأى العالم أن الأنظمة العربية ليست وحدها من يرمد بيوت الناس ويقصف السكان من الجو بأعداد مذهلة من الطائرات. قلب نتنياهو وحكومته «الطاولة» على الإسرائيليين أولاً. أوقف مسار «التطبيع» الذي بدا متسارعاً في الآونة الأخيرة، وبدد آمال المتفائلين بالسلام. وللمرة الأولى يتنبه العالم الخارجي إلى مسألة كان يحاول تجاهلها، هي الوجود العربي الكبير داخل فلسطين الأولى. فهؤلاء ليسوا مجرد نواب في الكنيست، بل هم أيضاً بشر وأرواح ومشاعر وكرامات ومقدسات ومحرمات. كان الثمن هائلاً ومريعاً في غزة كالمعتاد. وكان الرعب متعمداً في وضوح.…

ما تستحقه الشعوب على الضفتين

الأحد ٠٩ مايو ٢٠٢١

لا استمرارية إلاَّ في التطوير. الإنسان الذي لا يطوّر نفسه يفشل. والدولة التي لا تطوّر نفسها تصدأ، واللغة التي لا تطور نفسها تنقرض. البرنامج الداخلي والخارجي الذي عرضه الأمير محمد بن سلمان في مقابلة عبد الله المديفر، حمل تجدداً شاملاً في رؤية قائمة: العلاقة الاجتماعية مع الناس، والعلاقة الاقتصادية مع الدولة، والعلاقة السياسية مع الأصدقاء وأهل المنظومة الدولية. في شرق أوسط متأزم، وأمام دولة أميركية في وضع انتقالي متسارع، وحال دولية متوترة، اختار ولي العهد السعودي أن يتخذ هو المبادرة: مدّ يد التوافق إلى إيران، من أجل سلام المنطقة وازدهارها، وتجديد الصداقة مع الكرامة، مع الإدارة الأميركية الجديدة، والتأكيد للحلفاء والأصدقاء التقليديين على أن كل مودة في مكانها. خرج الأمير محمد من الكلام العام والخطاب العائم. وطرح القضايا التي تواجه المملكة والمنطقة بكل وضوح. وكرر شجاعة الاعتدال المسؤول في الداخل والخارج على السواء. لا عودة إلى الوراء ولا خروج عن الجذور. لكن أيضاً المستقبل للمستقبل. ولكل زمن حاجاته وفروضه. الزمن يتغير بالجميع. ومواجهة التغيير تتطلب تغيير الوسائل أيضاً، من كان يقول قبل 50 عاماً إن النفط سوف يتنازل عن كثير من احتكاره إلى الطاقة الشمسية، وإن الكهرباء ستولّد من دواليب الهواء التي كانت لعبة للأطفال مثل طائرات الورق؟ ومن كان يعتقد أن عدد سكان الرياض سيصبح في عدد سكان لبنان؟…

«جرائم النيل والصحراء»

الإثنين ٠٥ أبريل ٢٠٢١

كانت أغاثا كريستي أشهر كاتبة جريمة في التاريخ. ونظر العالم إليها دائماً على أنها بريطانية، حيث أمضت معظم عمرها، لكن الحقيقة أنها من أب أميركي وأم بريطانية. وعن علاقتها بالعالم العربي اشتهرت روايتها (لاحقاً أصبحت فيلماً) «جريمة على النيل»، كما اشتهرت على نطاق أضيق روايتها «جريمة في بلاد ما بين النهرين». الذي لم يعرف عنها كثيراً أنها عاشت سنوات عدة في العالم العربي، خصوصاً في العراق، حيث تعرفت إلى زوجها الثاني الذي كان يعمل منقب آثار لحساب الحكومة البريطانية. ومن ثم انتقلت معه إلى شرق سوريا، حيث استمر في العمل نفسه. وخلال هذه الفترة تنقلت بين مصر والأردن وفلسطين ولبنان. وسافرت بالقطار من بغداد إلى لندن، وفي تلك الرحلة ولدت أشهر رواياتها «جريمة في قطار الشرق السريع». ومن زيارتها إلى البتراء في الأردن ولدت روايتها «موعد مع الموت». كما كتبت عدة قصص قصيرة تدور أحداثها في الشرق الأوسط، خلال الفترة نفسها، وهي الثلاثينات من القرن الماضي. بدأت علاقة كريستي بالعالم العربي عندما جاءت مع والديها إلى مصر وهي في العشرين من العمر كما روت في مذكراتها، التي صدرت عام 1976 بعد وفاتها بسنة. وحاولت والدتها أن تثير اهتمامها بعالم الآثار من حولها، لكنها كانت ترفض ذلك، مفضلة ما في القاهرة من مباهج الحياة. لكن القاهرة كمدينة تركت في نفسها أثراً…

يبقيان هو ولبنان

الخميس ٠٤ مارس ٢٠٢١

كان كميل شمعون من ألمع السياسيين في لبنان، وكنت في السياسة ضده. وكان من أكثر الرؤساء حنكة ووسامة وحضوراً آسراً. وكنت ضد مواقفه. وفي عهده عرف لبنان الازدهار الذي لم يعرفه في تاريخه، وكنت أدرك هذه الحقيقة، لكن موقفي حياله لم يتغير، لأنه غامر بعروبة لبنان وجعل البلد ينقسم من حوله. كما عمد إلى تحطيم رجال السياسة الكبار مثل صائب سلام وكمال جنبلاط وعبد الله اليافي. خلال مرحلة طويلة كان مكتب غسان تويني في «النهار» ملتقى سياسيي المعارضة في لبنان. وكل يوم كنا نلتقي في المصعد رموزاً مثل ريمون إده أو كميل شمعون في طريقهم إلى «الطابق التاسع». وكنت، أتجنب إلقاء التحية على رئيس الجمهورية السابق. وكنت قليل الأدب، قليل الذوق. توفيّ من دون أن يتسنى لي الاعتذار منه، لكنني اعتذرت من نجله دوري. ليس عن موقفي السياسي، فهو لم يتغير، ولكن عن سلوكي المشين، حيال قامة تاريخية بذلك الحجم. منذ عام تقريباً استقالت حفيدته، تريسي شمعون، من منصبها سفيرة لبنان لدى الأردن، احتجاجاً على سياسة الرئيس ميشال عون والوضع المتردي في البلد. وبدأت السيدة البالغة 60 عاماً نشاطاً سياسياً مليئاً بالحيوية، وفي أسلوب راقٍ، وآداب البيوت الرئاسية. ورغم أنها إنجليزية الأم، فإنها تتحدث بلغة عربية طليقة، وتعبّر عن خبرة سياسية واضحة. وعندما ظهرت على «MTV» قبل أسبوعين، حققت مشاهدة…

من الديرة إلى المريخ

الخميس ١١ فبراير ٢٠٢١

سافرت إلى دبي أول مرة، عام 1964، صحافياً، مرافقاً أول وفد للجامعة العربية برئاسة أمينها العام عبد الخالق حسونة باشا. وكانت تليق بالرجل الألقاب المشيرة إلى الرِّفعة. حلّ الوفد في فندق «الخليج» المُفتَتَح حديثاً والمؤلّف من ثلاثة أو أربعة أدوار، كأول وأعلى ناطحة سحاب في البلد. بالأحرى على مدى المنطقة التي سوف تصبح لاحقاً، الإمارات العربية المتحدة، أجمل الوحدات في عالم عربي متفكك وهش ومتهافت ولا يكفّ عن الاهتزاز. تخيلت نفسي جالساً في بهو «الخليج» ذلك العام، وحسونة باشا قادم نحوي بكل أكابريَّة يسألني إن كنت قد عثرت على طبيب أسنان يعالج ألم الضرس الذي أصابني. ثم، من أجل أن يوزع السلوى على الجالسين، يقول: هل تعرفون شيئاً ما؟ إنهم سوف يبنون مكان هذه «اللوكاندة» التي تنقطع المياه فيها، أفخم فندق في العالم، وهذا الشارع الترابي أمامكم، سوف يرتفع فيه ذات يوم، أعلى برج في العالم. ونضحك جميعاً. ونُبدي كلنا الإعجاب بمخيّلة الباشا. ويبدو أن الإطراء قد راق له، فمضى يتوقع: أعرف أنكم لن تصدقوا هذا الكلام. ولكن هذه الإمارة التي مطارها الآن في الشارقة، سوف يكون مطارها ذات يوم، الأكثر ازدهاراً في العالم. أجل. ليس في أميركا ولا في أوروبا، بل في العالم. تطلّع أحدنا عبر نافذة البهو، ثم قال للباشا مقاطعاً بكل أدب: يا باشا، أفخم فندق، فهمنا.…

لا شرق في أميركا الجنوبية

الخميس ٠٤ فبراير ٢٠٢١

شهدت أميركا الجنوبية خلال القرن الماضي حروباً داخلية كثيرة، وحروباً أهلية أيضاً، وحروب مخدرات، ولكن ما من حالة من الحالات عبرت فيها جيوش دولة الحدود إلى دولة أخرى. وهذه الظاهرة لا تضع القارة في صف الأمم النموذجية؛ فهي موبوءة بجميع أنواع المشكلات السياسية والاجتماعية والعنصرية الأخرى. لكنها خطرت لي وأنا أبحث في ذاكرتي عن منطقة شبيهة بمنطقتنا؛ حيث لم تبق دولة إلا دخلت جيوشها أراضي جارتها أو أبعد منها. وإذا وضعنا جانباً حروب إسرائيل واحتلالاتها؛ السابقة والباقية، يصعب علينا أن نحصي بدقة عدد المرات التي رأينا فيها جيشاً يعبر الحدود للقتال عبرها. وفي الماضي كانت الجيوش النظامية هي التي تقوم بهذا الدور، لكن الآن نجد القوات شبه العسكرية تؤدّيه، مثل «حزب الله» في سوريا، والميليشيات الباكستانية والأفغانية، و«الحشد الشعبي» في العراق، ونجد جيوش تركيا وإيران في سوريا والعراق وليبيا. وفي نهايات القرن الماضي دخلت جيوش العراق إيران، وبعدها قامت باحتلال الكويت. وخاضت مصر في اليمن حرباً كلفتها 67 ألف قتيل. وخاض اليمن الشمالي حرباً طاحنة ضد الجنوب. وخاضت ليبيا في العصر الجماهيري كل حرب تستطيع الوصول إليها؛ من تشاد إلى لبنان. ودخلت سوريا إلى الأردن. وجاءت قوات منظمة التحرير إلى القتال في لبنان. واستقر الجيش السوري في لبنان طوال عقود، مرفقاً بمركز دائم للمخابرات. وعرفت الحدود الجزائرية - المغربية مناوشات…

الحلم الأميركي مبعثراً

الأربعاء ٢٠ يناير ٢٠٢١

ثمة تعبير ذائع حول العالم هو «الحلم الأميركي»، والمقصود به، بلاد الفرص الكبرى التي لا تتيحها أي ديار أخرى في العالم. لاحظ المشهد هذا النهار: السيدة الأولى التي تغادر البيت الأبيض عارضة أزياء سابقة من سلوفينيا، والسيدة التي تدخله، نائبة للرئيس، خليط من دماء هندية وكاريبية، وعضو في مجلس الشيوخ. للمرة الأولى يبدو «الحلم الأميركي» خائفاً. وللمرة الأولى تبعثر وهدد وأهين. لكنه يبقى بلا شبيه. ما مِن دولة بيضاء تنتخب رئيساً أسود لولايتين. ما من شعب ينتخب ممثلاً سابقاً رئيساً لولايتين وبأكثرية ساحقة. ظل عمر الشريف «فتى الشاشة الأول» في مصر، إلى أن تعرفت عليه كاميرا هوليوود فأصبح فتى الشاشة الأول في العالم. هاجر جبران خليل جبران مع أمه وإخوته، فتى معدماً. وسكنوا جميعاً مع الآيرلنديين الأكثر فقراً منهم. وفي بلاد الحلم سوف يصبح أحد أشهر كتّاب أميركا. وحفيد المهاجرين الآيرلنديين في بوسطن، جون كيندي، سوف يصبح رئيساً للدولة. وأيضاً سوف يُغتال. الحلم الأميركي تقطعه كوابيس كثيرة استغلت مجموعة إيطالية سافلة بلاد الفرص وأنشأت المافيا. لكن النظام الأميركي ظل أقوى من المحن التي تضربه: رغم الحشد العسكري في العاصمة، فهذا يوم احتفال بالديمقراطية. بالدستور وبإرث «الآباء المؤسسين». وفي اليوم الأول من ولايته يقرر الرئيس الجديد صرف 1.9 تريليون دولار لتحفيز الاقتصاد. أترك لجنابك أن تحسبها. وأن تحسب معها ثروة آدم…

الطاعون والكوليرا

الأحد ٠٦ ديسمبر ٢٠٢٠

عندما تأكد للعالم أن جائحة «كورونا» حقيقة سوف تطول، أخذ الناس في العودة إلى تاريخ ومشاهد الأوبئة الماضية. وفي فرنسا وحدها أعيد طبع ملايين النسخ من رواية ألبير كامو «الطاعون»، التي منح عليها نوبل الآداب عام 1957، وعلى نطاق أقل بكثير أعيد طبع رواية «الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي مُنح نوبل 1967 على روايته «مائة عام من العزلة». تدور «الطاعون» في مدينة وهران الجزائرية، مولد كامو، أما «الحب في زمن الكوليرا» فتدور في مدينة متخيلة، كعادة ماركيز، على البحر الكاريبي. في رواية كامو، الطاعون، هو البطل. هو الذي يحرك الأحداث والناس والإطار. أما الكوليرا في رواية ماركيز فهي ليست سوى مسرح تاريخي شاهد على أحداث رومانسية جرت في وقته، أي حوالي نهايات القرن التاسع عشر، كما يُفهم من النص، عندما تبدأ السيارات في الحلول محل عربات الخيل، وتبدأ رحلات المناطيد في سماء المدينة الشديدة القيظ، المليئة بالمستنقعات وحشراتها، وأيضاً بائعات الهوى، كما هي جميع مدن ماركيز. إنهن عنصر أساسي في روايات ماركيز، غالباً من دون أي ضرورة أو مبرر، وغالباً في تكرار واضح. مع اشتداد جائحة «كورونا» وتماديها وتفاقمها، عدت مثل غيري إلى قراءة «الطاعون» و«الكوليرا». عمل كامو كنت قد قرأته لا أدري كم مرة عبر السنين. رواية «الكوليرا» كنت قد قرأتها مرة واحدة من…

حرب البسوس بين يوليو وأكتوبر

الخميس ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٠

تدور رحى حرب صامتة بين الزملاء الأعزاء في سكرتارية التحرير وبيني أصبح عمرها الآن نحو 34 عاماً. وموضوع اشتعال هذه الجبهة شبه اليومية، خلاف حول ما يعتبره الزملاء حرصاً على الدقة، وما أرى فيه لزوم ما لا يلزم، وامتهاناً لثقافة القارئ واطلاعه. مثالاً على ذلك، أنا أصرّ على ذكر 23 يوليو كاسم علم، ليس من الضروري إطلاقاً شرحها بـ23 تموز. فهناك 23 يوليو 1952 واحدة، ومصر واحدة. وأنا أسمّي 6 أكتوبر 6 أكتوبر، لكن السكرتارية تضيف إليها فوراً تشرين الأول. وأسمّي 11 سبتمبر في نيويورك 11 سبتمبر، لكن الزملاء الأعزاء يسارعون إلى شرحه، لمن لم يبلغه الأمر بعد، إنه ذلك النهار من غرة شهر الفاتح في نيويورك. وأنا ماضٍ في العناد وهم ماضون في الصحاح. ونقطة الخلاف الأخرى هي حرف الزاين والسين. أنا أكتب «التايمس» بالسين، كما تلفظ، والزملاء الأعزاء يكتبونها (ويصححونها) بالزاين كما لفظها أجدادهم الأكارم، وقبل أن يبلغ عدد العرب المقيمين، أو الزائرين، أو الدارسين، لبلاد الأنكلوساكسون، عشرات الملايين. هل المسألة على هذا الجانب من الأهمية، أو الخطورة، كما كان يقول طه حسين؟ نعم. لأنه ما دام الصواب متوافراً فلماذا اختيار - والإصرار – على عكسه. في الـ«بي بي سي» دائرة قديمة لها مهمة واحدة هي لفظ الأسماء العلم كما تُلفظ في بلدانها. بينما اختار أسلافنا تحويل «بلاتو»…

العبقريان المترفان المسرفان الباذخان

السبت ٢١ نوفمبر ٢٠٢٠

كان الأول أشهر دبلوماسي في تاريخ بلاده، وربما في تاريخ أوروبا. الثاني كان أشهر سياسي في تاريخ دولته، وأحد أشهرهم في العالم. ولد الأول في القرن الثامن عشر، وبلغ ذروة عمله في التاسع عشر. وولد الثاني في القرن التاسع عشر، وحقق أكبر أمجاده في القرن العشرين. كلاهما ولد في عائلة من النبلاء. لكن ماذا كان القاسم المشترك بين الفرنسي شارل موريس دو تاليران، المعروف عالمياً باسم العائلة «تاليران»، والبريطاني ونستون تشرشل، المعروف بقيادة بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية؟ إلى جانب العبقرية السياسية، والمكر والفطنة الساخرة، كان كلاهما غارقاً في الترف والبذخ إلى درجة لا تُصدَّق. أسرف تاليران في مباهج الحياة أكثر من سيده الإمبراطور نابليون الأول، وأسرف تشرشل أكثر من الملك جورج السادس، وسائر أفراد العائلة المالكة في بريطانيا. كلاهما كان مقتنعاً بأن الإمبراطور والملك غير قادر على الاستغناء عنه. لم يتوقف تاليران كثيراً عند الأخلاقيات في عمله من أجل فرنسا، ومن أجل نفسه، بل كان يتآمر على الإمبراطور لاعتقاده أن حملاته التوسعية تضر بأمن البلاد. وكان تاليران يعرج قليلاً من قدمه المسطحة. وذات مرة، دخل قاعة القصر متكئاً على ساعد مدير الأمن الشهير، فوشيه، فعلق أحد الحاضرين قائلاً: هذه أول مرة تتكئ الرذيلة على الجريمة. بعكس نابليون الممتلئ حيوية، ولا ينام، الذي هزم البريطانيين في معركة طولون…

سيرتان وقصتهما

الثلاثاء ١٧ نوفمبر ٢٠٢٠

في السبعينات كان صامويل بيكت أشهر كاتب آيرلندي على قيد الحياة. وكان يعيش في باريس. كما فعل معظم حياته، إلا عندما يصاب بالزكام في الشتاء، فيسعى إلى الدفء في طنجة، أو تونس. وكانت سيمون دو بوفوار، أشهر كاتبة فرنسية، على قيد الحياة. وكانت تعيش وحيدة في باريس، بعد غياب رفيق عمرها جان بول سارتر، إثر شيخوخة متعبة ومليئة بالأمراض. وفي هذه الفترة كانت تعيش في مدينة بوسطن أستاذة جامعية عادية تدعى ديدري بير. متزوجة، ولها ولدان وتمضي حياتها بين المطبخ والتدريس وتصحيح مسابقات الطلاب. ذات يوم قرأت أن كاتبها المسرحي المفضل، صامويل بيكت، رفض طوال السنين السماح لأحد بأن يكتب سيرة حياته. سوف يذهب من هذه الدنيا وقد ترك خلفه صورته المطبوعة في العالم: رجل انطوائي بلا أصدقاء أو معارف أو حياة عامة. مساء ذات يوم، فيما تُحضّر العشاء للعائلة، لمعت لها خاطرة مسلية: لماذا لا أقترح على بيكت، أن أكون أنا من يكتب سيرته. إن مثل هذا الاقتراح سوف يسلّيه ولو مؤقتاً، وسوف يخرجني من رتابة المطبخ وعشاء العائلة، مع العلم، أن زوجي (الذي نشأ في مزرعة) يساعدني في كل أعمال المنزل. المفاجأة الكبرى: بيكت يكتب إلى الأستاذة بير، التي أصبحت في هذا الوقت محاضرة في جامعة بنسلفانيا، يبلغها موافقته ويطلب منها ملاقاته في باريس للبدء في المشروع. فرحة…

هل نرسل إليكم خبراء؟

الجمعة ٠٦ نوفمبر ٢٠٢٠

النظام الديمقراطي شيء متعب للجميع. مهرجانات وخطب وسهر وتعب وسفر، وفي النهاية، يفوز رجل واحد بشق النفس. في الأنظمة الأخرى سهولة مطلقة وراحة بال. لا شيء من هذا. الرئيس ينتخب نفسه، ويضع رقم الفوز الملائم لمحبة الشعب له. ويتكرر ذلك مدى الحياة. أتعبتنا النتائج الأميركية بقدر ما أثارتنا. أصوات فُرزت وأصوات لم تُفرز وأصوات أمام القضاء، وولايات بالأحمر وولايات بالأزرق، وانتخاب مباشر يرافقه اقتراع المندوبين، شو صاير؟ نحن في لبنان وضعنا قانوناً انتخابياً سميناه «الصوت التفضيلي»، وبموجبه (التفضيلي) فاز نائب في زحلة بـ77 صوتاً، أو 87، لا أذكر بالضبط، وإنما تحت المائة بكل تأكيد. الديمقراطية شيء متعب. في الديمقراطية الأخرى تنتخب عنك الشرطة السرية وأنت جالس في بيتك، وتختار عنك وتوقع عنك أيضاً. وإلا كيف يثبت النظام محبته للشعب وثقته بولائه، إذا لم يكن ساهراً على راحته بنسبة 99.999 في المائة؟ لشدة ما تشبه الديمقراطية اللبنانية شقيقتها في أميركا، رفضنا أن نشكل حكومة قبل أن نعرف نتائج انتخابات البيت الأبيض. ومن يعتقد من حضراتكم أنني أبالغ وأمزح، فهو لا يتابع صحف لبنان وعناوينها، وتحليلات نشرات الأخبار، والسادة المحللين والسيدات المحللات. تستحق الديمقراطية الأميركية كل هذا العناء؛ لأن الرجل الذي يصل إلى البيت الأبيض يلعب دوراً كبيراً في سياسات العالم، وسلامه وحروبه واقتصاداته. وكثير من متغيرات العالم متوقف على مواقفه التي…