الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤
أعلم أن بعض القراء الأعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الأسبوع الماضي. أما أنا فما زلت آمل أن يتحمس الأصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته. إحدى المسائل المهمة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد، مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض أنك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص... فأي الطرفين أَولى بالرعاية؟ أتوقع أن معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كل الثقافات، لكنه سائد بدرجة أكبر في المجتمعات التقليدية، التي تميل لإعلاء الرابطة الاجتماعية، ولو أدى إلى خرق حقوق الأفراد. كان إيمانويل كانط، الذي يُعد أبرز آباء الفلسفة المعاصرة، قد طالب كثيراً باحترام كرامة الإنسان الفرد، وعدم اتخاذه أداة أو وسيلة. الإنسان - وفقاً لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ينبغي أن يستهدف إسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضاً. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل إسعاد الغير. حسناً، ما الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الأفعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟ يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل…
الخميس ٣١ أكتوبر ٢٠٢٤
هل يمكن للحكومة أن تهذب شعبها، بمعنى أن تجعله أكثر التزاماً بالفضائل ومكارم الأخلاق؟ أثيرَ هذا السؤال في نقاش حول معاني الأخلاق السياسية وتطبيقاتها في المجال العام. واستعرض أحد المتحدثين رؤية أفلاطون، الفيلسوف اليوناني المعروف، الذي قرر أن الدولة مسؤولة عن تربية الشباب، وتلقينهم المعارف، وتدريبهم على الحِرَف والعادات الحسنة. ونعلم أن هذه الفكرة ما زالت سائدة حتى يومنا الحاضر. فالناس جميعاً، في شرق العالم وغربه، متفقون على أن أبسط واجبات الحكومة هو إنشاء وتشغيل نظام التعليم العام، من مستواه الأدنى، أي رياض الأطفال، حتى الدرجة الأخيرة من التعليم الجامعي. لكننا نعلم أيضاً أن مبررات هذه الرؤية تختلف، في نموذجها المعاصر، عن تلك التي تحدث عنها أفلاطون. كان أفلاطون يرى إمكانية جعل الفضيلة سلوكاً عاماً، يمارسه جميع الناس من دون تكلف. كما رأى أن الجهل هو السبب الرئيسي لارتكاب الإثم؛ لأن الفضيلة في جوهرها هي الحقيقة، أو هي قرينة الحقيقة. ونحن نصل إلى الحقائق من خلال الدراسة والتعلم والتجربة. بعبارة أخرى، فإن الدراسة تؤدي إلى إدراك حقائق الحياة، وإدراك الحقائق يكشف عن الفضائل؛ لأن الفضيلة هي الحقيقة أو قرينتها. فإذا أمست الفضيلة سلوكاً عاماً، تحققت ما سماها الفيلسوف «المدينة الفاضلة»، وهي ما تُعرف في الأدبيات الغربية الحديثة باسم «اليوتوبيا». أما في نموذج الدولة الحديثة، فإن التزام الحكومة بإنشاء نظام لتعليم…
الخميس ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٤
للدولة أخلاقها وللناس أخلاقهم. هذان عالَمان مختلفان في كل الجوانب تقريباً: في التكوين، والمبررات، ومصادر القوة، وأدوات العمل، وقيمة الفعل، ومعايير النقد والمراجعة... إلخ. الدولة ليست مجموعة أشخاص يديرون بلداً، بل هي تكوين صلب لا يقبل التفكيك. وبهذه الهيئة، فهي مختلفة عن مجموع أعضائها. كي لا نغرق في الكلام العام، دعنا نقارن بين المعادن التي بُنيت منها سيارتُك، وسيارتك نفسها. إن قيمة تلك المعادن (لو جُمعت) لن تبلغ 5 آلاف ريال، أما سيارتك نفسها فقد تتجاوز مائة ألف ريال. السبب أنها ليست مجموعة معادن نُظمت ورُبط بعضها إلى بعض، بل هي شيء آخر يعمل بطريقة مختلفة، ويقاس بمعايير مختلفة، ويُحسب على ضوء قيم مختلفة. ماكينة السيارة كون مستقل، وليست مجموع المعادن التي تألفت منها. كذلك الدولة؛ فهي ليست مجموعة الأشخاص الذي يشغلون مكاتبها. الدولة - ببساطة - عالم قائم بذاته وخصوصياته، ولا يشبه شيئاً غيره. لو سألت علماء السياسة عن الوصف الدقيق لوظيفة الدولة ودورها، فسوف يذكرون - على الأغلب - تعريف ماكس فيبر الذي قال إن الصفة الجوهرية التي تميزها عن كل شيء آخر، هي أنها «الهيئة الوحيدة التي تمارس العنف بشكل مشروع». وماكس فيبر مفكر ألماني يعدّ من آباء علم الاجتماع الحديث. وهو يرى أن حقيقة الدولة ترتبط بملكيتها مصادر القوة العامة، وتفويضها في توجيه تلك المصادر إلى…
الخميس ٠٣ أكتوبر ٢٠٢٤
سألتني السيدة ميرة، وهي مثقفة من دولة الإمارات الشقيقة، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني، أم نحتاج أيضاً إلى الرابطة الشعورية، أي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد؛ كي تكون مواطَنة صحية وبنَّاءة؟ لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجهاً لأشخاص أعرفهم، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطناً مثلنا، وأنت تنكر كثيراً مما نؤمن به. وسمعت شخصاً كان مشهوراً في زمن سابق، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت «فلاناً» لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلاً: إننا لا ننتمي إلى ذات المكان والمرجع. وأعلم أن كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلاً واسعاً في وقتها. والحمد لله أن تلك الصفحة قد طُويت، وارتاحت بلادنا من أثقالها. يشير سؤال السيدة ميرة إلى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة إلى مستوى الهوية الكاملة، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن أن هذا ممكن في الواقع. ولو قلنا إنه ممكن، فهو عسير المنال جداً. ولذا؛ لا أرى داعياً للسعي إليه أو المطالبة به؛ خشية تكليف الناس ما لا يطيقون. على أنني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة، ولا سيما تحميلها على الهوية…
الخميس ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤
احتفل السعوديون هذا الأسبوع بـ«اليوم الوطني»، الذي يذكرنا بين عام وآخر بالقيمة الكبرى للوحدة الوطنية والاستقرار؛ وما ينجَز في ظلهما من نمو اقتصادي وازدهار. وقد بات الاحتفال والفرح سمة عامة لـ«اليوم الوطني» في شتى بلاد العالم؛ وربما عُدّ وسيلة لازمة لإبراز القيم التي يرمز إليها. لا أعرف أين وُلد هذا التقليد، ولا أول بلد في العالم احتفى بيومه الوطني، لكن أستطيع تصور الظرف الزمني المتصل بهذا الموضوع، فالراجح عندي أنه يرتبط بتبلور فكرة «الوطن» في معناها الحديث بعد «صلح وستفاليا»، وهو معاهدة عُقدت في وستفاليا غرب ألمانيا سنة 1648، وأثمرت اتفاقاً بين الدول الأوروبية على الاعتراف بالحدود القائمة بينها، وأن كل الذين يعيشون داخل هذه الحدود مواطنون للدولة، بغض النظر عن مذاهبهم الدينية وقومياتهم. وبهذه الاتفاقية انتهت سلسلة من الحروب الدينية استمرت نحو 30 عاماً. وانطلاقاً منها أيضاً، ارتبط مفهوم «الوطن» بالسيادة القانونية التي تملكها الدولة على نطاق محدد من الأراضي، وتحظى باعتراف الدول المجاورة والمجتمع الدولي. لكن ما علاقة الاحتفاء بـ«اليوم الوطني» بهذه الفكرة؟ يركز مفهوم «الوطن» على الرابطة التي تجمع بين الأفراد كافة الذين يحملون جنسية بلد واحد. هؤلاء الأفراد قد لا يرتبطون بنسب واحد أو دين أو مذهب واحد، بل قد لا يتحدثون اللغة نفسها، ولا يرجعون إلى تاريخ مشترك، لكنهم - مع ذلك - مواطنون لدولة…
الخميس ١٢ مايو ٢٠٢٢
حظيت هذا الأسبوع بالمشاركة في نقاشات ناضجة وحيوية، احتواها «مؤتمر الوحدة الإسلامية» في أبوظبي. وهي تشكل - في رأيي - إشارة قوية على اجتيازنا مرحلة سمَّيتها يوماً بمرحلة «التكاذب». مرحلة التكاذب ببساطة، هي ظرف يجد فيه جميعُ الناس أنفسهم مضطرين إلى الحديث بلغة معينة، بطريقة معينة، حتى لو كانوا غير مؤمنين بها. مرحلة اتسمت فيها الحياة الاجتماعية بالتكلف والازدواجية. في تلك الأوقات كان كل شيء ينسب الفضل فيه إلى الدين، فما ذُكر ابتكار أو نظرية جديدة، إلا وألحقت به عبارة في معنى «قالها الإسلام قبلهم»، مع أن أهل المعرفة فينا يعلمون أن هذا كله غير صحيح. لكن بات من لوازم المقبولية في المجتمع، أن تلبس الثوب الذي يتوهّم بعضنا أنه ثوب الدين، وتتحدَّث باللغة التي تشابه ما نراه في كتب التراث وعند المتحدثين من قرائه. حتى أني قابلت يوماً صديقاً يراجع دائرة رسمية، فوجدت ذقنه قد امتدت إلى ما شاء الله، فضحكت في وجهه؛ لأني أعرف أنَّه ملحدٌ، فقال لي ضاحكاً «عدة الشغل»، ومضى في طريقه. أما الأحاديث التي اعتبرتها إشارة لاجتيازنا مرحلة التكاذب تلك، فأبرز مثال عليها هو العودة إلى تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، وبيان الفجوات والفرص، دونما مجاملة للذات أو لمراكز القوى، التي اعتادت إلزام الناس بالتملق لها وتكرار أقوالها. في هذا السياق تحدث عدد ملحوظ من العلماء…
الأربعاء ٢٩ ديسمبر ٢٠٢١
ذكرتُ في مقال سابق، أنَّ فقهاءَ الشريعة، تختلف آراؤهم في الموضوع الواحد، كما تختلف أحكامُ القضاة في القضية الواحدة. وهكذا الأمر عند مفسري القرآن وعلماء الطبيعيات والهندسة، بل كل علم يعرفه الإنسان. لولا الخلافُ في المواقف لسادت الأحادية، وتحول المجتمعُ البشري إلى ما يشبه مجتمع النحل. ولولا تقبلُ العقلاء الاختلافَ في الرأي والاجتهاد، لانجبر الناس في طريق واحدة، ومات العلم. الخلاف والاختلاف هما الماء الذي تحيا به شجرةُ العلم. هل ينطبق هذا المبدأ على علوم الدين أيضاً؟ نعم، بطبيعة الحال. لكن لماذا هذا السؤال؟ السبب الأول للسؤال هو الاختلاط المشهود بين ما هو علميٌّ بحت وما هو مقدس؛ الأمر الذي يجعل البحثَ العلمي المحايد في غاية العسر. ولهذا يواجه دعاةُ الإصلاح والتفكير الديني الجديد عنتاً شديداً، حين يحاولون استعمال المناهج الجديدة في البحث العلمي، وهي مناهج تتعامل مع قضايا العلم وأدلتها من زاوية تقنية أو وظيفية بحتة، ولا تعبأ بالجانب المقدس في موضوع البحث. من عوامل التأخر في علوم الشريعة، الخوفُ من خرق المقدسات. وهو قد يكون خوفاً صحيحاً، أو ربما مجرد وهم. أما السبب الثاني، فهو اعتقاد كثيرٍ من عامة الناس، بأنَّ ما يسمعونه من الخطيب أو الفقيه، وما يقرأونه في كتب الفقه، هو نفس ما قاله النبي أو صحابتُه الذين سمعوا منه. وإذا كان ثمة اختلافٌ، فهو قصر…
الأربعاء ٢٤ نوفمبر ٢٠٢١
سألني أحدُ الأعزاء عن تأثير التكنولوجيا على الهوية الفردية: ما طبيعة هذا التأثير وكيف يحدث، وهل لنا يدٌ في تحديد اتجاهاته وانعكاساته؟ وكنت قد لاحظت في كتابة سابقة أنَّ هذه المسألة تُعامَل بنوع من الاستخفاف. ولذا فهي لا تُدرس بعناية، ولا تُعامل من جانب الباحثين المحليين كتحدٍّ جديٍّ أو داهم. هناك أيضاً من يحصر المسألة في تأثر الشباب بسلوكيات المجتمعات التي يتواصلون معها ثقافياً، من خلال الإنترنت أو الإعلام المرئي أو السفر، ولا ينظر إلى التحول الذهني الذي يحفر في العمق. حسناً. دعنا نضع النقاط على الحروف: من حيث المبدأ نحن لا نتحدَّث عن تطور تكنولوجي منفرد، أو معزول في جوانب معينة من الاقتصاد. صحيح أنَّ علاقتنا بالتقنية مقصورة على استعمال منتجاتها، فنحن لا نشارك في إنتاجها أو تطويرها. مع ذلك فإنَّ هذا الاستعمال لا يجري في فراغ، بل هو جزءٌ من نمط معيشي/ اقتصادي جديد، وهو يشير إلى قدر من المعرفة بطبيعة هذه التقنية وحدودها، واستعداد (نفسي) للتنازل عن التزامات، كانت تبدو في الماضي ضرورية جداً. ومثالها البسيط هو تقبل امتلاك الشاب والفتاة لهاتف خاص لا يخضع لرقابة العائلة، وهو أمرٌ لم يكن متاحاً في الماضي، سيَّما بالنسبة للفتيات (الواقع أنَّه ما زال مشكلة وسبباً للنزاع في وسط العائلات الأشد تحفظاً). إنَّ التقنية لا تأتي منفردة. فهي تعبيرٌ عن…
الأربعاء ١٣ أكتوبر ٢٠٢١
أظنُّ أنَّ مفهومَ «بناء الدولة» مألوفٌ لدى غالبية دارسي العلوم السياسية، وربما غيرهم أيضاً. وفيما مضى كنت أحسب أنَّ محور هذه الفكرة، هو إقامة جهاز إداري متماسك وفعَّال، كي يستثمر مصادر قوة الدولة أو يعيد تأهيلها أو يخلق مصادر جديدة. لكن أستاذي البروفسور جون كين، كان مرتاباً جداً في هذه الفكرة. وهو يقول إنَّ النظام الاجتماعي الذي يقام على هذا الأساس، أقرب إلى هرم مقلوب، يعتمد ثباته على القوة الشخصية للزعيم. خذ مثلاً جوزف ستالين (1878 - 1953) الذي أعاد بناء الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، وحوَّله إلى دولة عظمى. خذ أيضاً مثال ماوتسي تونغ (1893 - 1976) الذي حوَّل الصين من بلد يموت مئات الآلاف من سكانه بسبب الجوع في كل عام، إلى بلد هو الأسرع نمواً في العالم. ويمكن أن نضرب مثلاً بأدولف هتلر، والعديد من الزعماء الأقوياء الذين نجحوا في إحداث تحولات عميقة جداً في بلدانهم، خلال فترة قصيرة. يعتقد البروفسور كين أنَّ هذا النموذج الباهر، قصير الأمد. البناء الذي أقامه ستالين تفكك وانهار خلال خمسة عقود. ونموذج ماوتسي تونغ نجح اقتصادياً، لكنه حوَّل المجتمع الصيني إلى شبه معسكر مترامي الأطراف. ولذا سرعان ما تنكَّر له خلفاؤه. مشكلة هذه النماذج تكمن في إيمانها بمثال «مجتمع النحل»، حيث يسود النظام الكامل الشامل، الذي لا يتخلّف عنه أحد.…
الأربعاء ٢٢ سبتمبر ٢٠٢١
أكثر الجدالات سخونةً في العالم العربي اليوم، يتناول دور الدين في الحياة العامة، وعلى الخصوص في إدارة الدولة وعملها اليومي. لكل بلد عربي قائمته الخاصة من الأزمات الصغيرة أو الكبيرة، من الفقر إلى البطالة واضطراب الأمن وتعثر النمو، وضعف المشاركة السياسية وغياب الحريات المدنية...إلخ. ومع كل هذه المشكلات، فإن ما يسمى «الإسلام السياسي» بشعاراته وشخوصه وجماعاته وتاريخه، ما زال مادة أثيرة للجدل، بل لا أبالغ لو قلت إنَّه يفوق كل الأزمات الأخرى، في جاذبيته لاهتمام الجمهور ونخبته على السواء. وإن أردت التحقق من صدقية هذا القول، فانظر مواقع التواصل الاجتماعي في أي قطر عربي، أو انظر صحافته، وسترى أنَّه نادراً ما تخلو صحيفة من أخبار أو نقاشات تتصل بـ«الإسلام السياسي». تضخم اهتمام الناس على هذا النحو، لا يعني بالضرورة أنهم يشبعون الموضوع بحثاً وتحليلاً، بل على العكس تماماً: فهذا نوع من القضايا التي كلما زاد الكلام فيها، زاد غموضها واختفت معالمها، وتعددت مذاهبها، فلا يمكن لخبير طرقها، من دون أن يقابل من يعرقل سعيه أو يستشكل عليه بما يصح وما لا يصح، فضلاً عن اتهامه في مكنونات نفسه ونواياه. ومن هنا بات النقاش فيها أقرب إلى السير على الشوك. وقد لفت نظري هذا الأسبوع ما قاله الأستاذ يوسف أبا الخيل، الكاتب السعودي المعروف، فقد كتب أولاً على «تويتر»، منصة التواصل…
الأربعاء ٠٨ سبتمبر ٢٠٢١
قبل تسعين عاماً أصدر الأمير شكيب أرسلان كتابه الشهير «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟». ويذكر في قصة الكتاب، أنَّه جاء استجابة لنقاشات دارت في تلك الأيام، على خلفية التحدي الأوروبي للعالم الإسلامي، في مجال العلم والاختراع والقوة العسكرية والاقتصادية، وغيرها. خلال ربع القرن الأخير وُلدت أسئلة جديدة، وتبيَّن أن سؤال الأمير شكيب أقام سياقاً، هو بذاته مُشكل. ولهذا؛ لم نستفد منه في إثارة نقاش جاد، بل تحول إلى وسيلة تنفيس عن القهر. بيان ذلك: أن سياق النقاش افترض مسبقاً أن التأخر والتقدم مرتبطان بالدين، تبعاً للدعوة الأوروبية إلى العلمانية. وقد ردَّت النخبة المسلمة على هذا الادعاء، بتنزيه الإسلام عن التخلف أو التسبب فيه. وقد بدا لي من دراسة تلك النقاشات، أن موضوع الجدل يومئذ هو «الهوية» وليس «الدين»، أي الإسلام باعتباره عنوانَ انتماءٍ ورابطة بين أتباعه. لم يكن لمسألة التقدم كبير شأن في تلك النقاشات، فقد انحصرت في الرد على دعاوى الغرب ومساعيه للنفوذ في العالم الإسلامي. وتبعاً لذلك؛ تحول موضوع التقدم إلى عنوان للجدل في موضوع مختلف تماماً، هو علاقة المسلمين بالغرب. أدَّى الاختلاط بين هذين النقاشين، إلى إهمال تام لمسألة التقدم كموضوع مستقل، له شروطه وحاجاته وسياقه الخاص. وأظنُّ أنَّ هذا كان من اعظم الرزايا التي ابتُلي بها العرب والمسلمون، في حاضرهم وماضيهم. فحين تهمل مسألة التقدم، فإنَّك…
الأربعاء ٢١ يوليو ٢٠٢١
أسهلُ الكلام هو اتهامُ الأفغان بأنهم دمى تحركهم أيادٍ أجنبية، وأن صراعاتهم كلها حروبٌ بالوكالة. ومثله في السهولة اتهامُ السوريين والليبيين. إني لا أنفي وجود أياد أجنبية في أي مكان. ولا أنفي أنها تؤثر، ولولا أنها مؤثرة لما التفت إليها أحد. لعل بعضنا يعرف أن القضاء الأميركي ما زال يحقق في «أياد روسية» حاولت التأثير في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فإذا وصل الأمر إلى واشنطن؛ فإن كابل أيسر مؤونة. رغم هذا؛ فإن إطلاق القول على هذا النحو مدعاةٌ للسخرية. ولهذا يميز طلبة العلوم السياسية، سيما الذين تدربوا على دراسة الحقل المشترك بين العلاقات الدولية وإدارة الأزمات، بين قيام الأجنبي بـ«خلق أزمة» وقيام الأجنبي بـ«استثمار أزمة؛ نشطة أو خاملة». أعرف حالات قليلة جداً شهدت نجاح الأيادي الأجنبية في خلق أزمات أدت إلى صراع أهلي. لكن معظم حالات الصراع الأهلي تطور عن تأزمات داخلية، فشل أطرافُها في معالجتها على نحو سليم، فنشأ فراغ أمني أو فراغ سياسي، مهد الطريق للتدخل الأجنبي. ما الداعي لهذا الحديث اليوم؟ أعلم أن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، والتوسع المفاجئ لحركة «طالبان»، سوف يجتذب اهتمام القراء. ولا بد من أنه سيحرك كثيراً من النقاشات. فأردت استثمار المناسبة للكشف عمّا أظنه عيباً جوهرياً في الثقافة السياسية السائدة بين العرب المعاصرين وبعض جيرانهم المسلمين. هذا العيب هو ببساطة «احتقار الذات»،…