ذو الفرصة الثانية.. عبد العزيز النعيمي – بقلم عبد الله ثابت

أخبار

قرأت ورأيت، كما غيري، الخبر الذي جاء عن محاولة الشيخ عبدالعزيز النعيمي أن يقوم بتجربة الموت عبر النزول للقبر والبقاء فيه لمدة ثلث ساعة، وقبل أن أعلق على الحادثة/التجربة، أنقل ما قرأته، وقد وجدته بنفس الصيغة في أماكن عديدة، يقول الخبر: (أحد أفراد الأسرة الحاكمة في إمارة عجمان يدفن نفسة لمدة عشرين دقيقة في تجربة فريدة من نوعها؛ الدكتور عبدالعزيز النعيمي ابن أخ حاكم عجمان يصور نهايتة ويعيشها. قام الشيخ د.عبدالعزيز بن علي النعيمي ابن أخ حاكم إمارة عجمان “صاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي” بتجربة استغرقت مدتها 20 دقيقة تصور فيها نهايته بدخوله للقبر، حيث قام بارتداء الكفن والنزول في القبر الذي أغلق عليه لمدة ثلث ساعة، ليعيش لحظات أول منازل الاخرة. وصف الدكتور النعيمي هذه التجربة بأنها نموذج بسيط من رحلة الآخرة، وقال “تذكرت علاقتي مع ربي ومع أهلي، مع الناس ومع أولادي، وأهم شيء.. ما عملته نموذج بسيط؛ أن نخاف كثيراً من الموت، والموت جزء بسيط من رحلة الاخرة، والله أعطاني فرصة ثانية”، وذكر النعيمي أن التجربة سوف تؤثر في حياته ليقوم بترتيبها والعطاء والزرع والبذل للآخرة). انتهى الخبر.

بدايةً لا بدّ أن هناك ما تراكم في نفس الشيخ عبدالعزيز، من الأفكار والحيثيات، ما دفعه أخيراً للقيام بهذه التجربة، التي تحتاج لشجاعة نفسية كبيرة دون شك، وتستحق الإعجاب والتأمل، إذ يستحيل أن تجربة مثل هذه ستأتي هكذا عفواً ودون أن يسبقها الكثير الكثير، من الأحداث والمشاهدات، أو على الأقل من ناحية التفكير الطويل في الموت وما يتصل به، تهيئةً وإعداداً نفسياً للقيام بهكذا فعل.

ثم أذهب إلى أمرٍ قديم، تذكرته فور اطلاعي على الخبر والفيديو، وهو أنني والبعض من جيلي قد عشنا هذه التجربة مراراً ومراراً، ونحن لم نبلغ حتى الثامنة عشرة من العمر وأقل من ذلك، فقد كان يُذهب بنا، ثم صرنا نذهب من تلقاء أنفسنا لمقبرة مظلمة في ضواحي المدينة، وفي وقتٍ متأخرٍ بعد منتصف الليل، ومن ثم نتمدد في القبور المفتوحة، لا يكاد المرء يرى يده، ونبقى فيها ونحن نجرب الموت والخوف والرهبة واستحضار كل ما كنا قد فُزّعنا به من الله، من عذاب القبر بحياته وعقاربه وسؤاله وغير ذلك، وحتى البعث والنار، وكان يحدث هذا بالساعة والساعتين.كنا نفعل هذا بشكلٍ دوري، إن لم يكن أسبوعياً ففي كل شهرٍ مرة، واستمر هذا الفعل سنيناً، ولأنني لا أعرف السياقات التي حدت بالشيخ عبدالعزيز لخوض مثل هذه التجربة، وهي حتماً مختلفة، فسأذكر السياقات التي خضناها بها نحن، مع فارق الزمن والظروف، وبالتأكيد تفاصيل التجربة، ولن أستطرد، فكثيرٌ من الكلام صار مكرراً ومعروفاً، سأذكر فقط الإطار المباشر؛
في تك الفترة التي استحوذ فيها الغلو في الدين على الكثير من تفاصيل الحياة، حدث أن استولت بعض جماعات الإسلام السياسي على الناشئة، فقد كانوا يعمدون إلى أشياء عدة لتجنيدهم وتحويلهم إلى عناصر مطيعة وعمياء، تنقاد فقط دون تفكيرٍ أو سؤال خارج ما يحدد لها السؤال والتفكير فيه سلفاً، من بين هذه الوسائل وأخطرها: الفركّ “الديني” المتواصل على الغرائز، وعلى رأسها الخوف، يبدأ من الأنشطة المدرسية اللاصفية التي كانت تشهد صراخ الوعظ والوعيد، وتمثيل تغسيل الموتى وتكفينهم وإنزالهم للقبور، ثم إلى تغسيل الموتى وتكفينهم وإنزالهم للقبور، واقعاً لا تمثيلاً، ثم يُذهب بنا مرة تلو الأخرى للمقبرة، للتمدد على ظهورنا في القبور المفتوحة في قلب الظلام، كما قلت سالفاً، حتى يصير مع الوقت أن نذهب نحن من تلقاء أنفسنا، والقيام بالفعل نفسه، ثم يصير أيضاً أن نكبر، ونصبح نحن من يسحب آخرين أصغر منّا ليقوموا بذلك.. وهكذا!.

أما كيف يكون هذا الفرك الديني على غريزة الخوف وسيلةً للتجنيد، فالأمر بسيطٌ للغاية، وهو ذو شقين؛ الأول أن الانتماء لهذه الجماعة أو تلك هو المخلص المباشر والحقيقي والوحيد للنجاة، والخروج عنها – أي الجماعة- وعن طاعتها العمياء يعني أن مصيرك سيكون هذه الأهوال، التي تبدأ بتمثيليات الغسل والتكفين في الأنشطة اللاصفية في المدارس، والانتهاء بالقبر.. فالعذاب، فجهنم! وأما الشق الآخر فهو؛ بقدر ما أنهم يحكّون الخوف حتى يدمى، بهذه الطرق في أفئدة أتباعهم حتى يتحولوا إلى عميان يأخذونهم بأيديهم إلى حيث يريدون من جهة، بقدر ما يكسرون حاجز الموت ورهبته حتى يفقد معناه من جهةٍ أخرى، لكنما في إطار تلك الجماعة ومقولاتها فقط، لأنه لا موت آمن خارجها، بل، وأكثر من هذا، يصير الموت بداخلها من شدة الترويع السالفة.. حلماً واشتهاءً!

ومن هنا نجد صبيةً وشباباً في غضاضة أعمارهم يلبسون الأحزمة والقنابل مبتسمين، ظانين أنها شجاعة وبطولة، والقصة الخلفية مثل هؤلاء، تكمن حقيقةً في الفزع الرهيب واللامحدود الذي كُرّس في وجدانهم، أقوالاً وأفعالا!.

الآن أحب أن أوجه حديثي للشيخ عبدالعزيز النعيمي، وهو بحسب ما قرأت عنه رجلٌ فاضل، فأقول لا شكّ أن الموت كان وما زال وسيبقى سؤالاً كبيراً جداً، وقد كان من قبلنا سؤال الأنبياء والفلاسفة والحكماء وعلماء الطبيعة والأديان، وكثيرون كثيرون حاولوا خوض تجربة الموت بدوافع وطرق مختلفة في كل زمن، وكانت نتيجة الصادقين منهم واحدة دوماً؛ أنه ما من أحدٍ تنشغل روحه وعقله بهذا السؤال، بمنتهى التجرد والحقيقة، إلا ويكون في غاية النبالة والتأملية والكدح الدائم في سبيل منح البشر جميعاً حياةً أجمل وأفضل وأكرم، وأكثر اتساعاً وقبولاً وحباً للإنسان، أينما وكيفما كان، وهذا ما أتوقعه من الشيخ عبدالعزيز؛ أن يزيد الحياة سعةً في فرصته الثانية، حسب تعبيره الجميل، فالله استخلفنا على الأرض لعمارتها.. بالمزيد من الحياة.

الحياة عظيمة، والله سمى نفسه بالحي، ولا يمكن للدين ولا للفكرة السليمة أن تتفق مع الموت وتتعارض مع الحياة، ولذا وبعد التجربة التي خاضها الشيخ عبدالعزيز فإني أقترح عليه أن يتبنى مشروعاً ويسميه”الحياة” أو باسمٍ ينتمي لها.. وليكن موجهاً للأطفال والصبية والشباب، يهدف لتحصينهم بالمعرفة والعلوم حتى لا تختطفهم ثقافة الموت ولا سدنته، من بين أهاليهم ومجتمعاتهم وبلدانهم، كي تحيلهم أخيراً إلى عبوّاتٍ تنسف الحياة.. أو على الأقل إلى خصومٍ أفظاظ. الله يقول”ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعا”.


عبد الله ثابت روائي و شاعر من السعودية صدرت له عدة أعمال من أشهرها رواية (الإرهابي 20)