السبت ١١ سبتمبر ٢٠٢١
الجلوس في مواجهة شاشة التلفاز، ومتابعة نشرات الأخبار، يشبهان إلى حد كبير الجلوس أمام رجل مسلح قيّد يديك خلف ظهرك وشد وثاق رجليك، ولم ينس أن يربط فمك بمنديل عقده خلف رأسك، إضافة لكل ذلك فإنه يصوب إليك بندقية رشاشة، وأنت جالس في قاع روحك المنهكة وعجزك المتوالي، لا حول ولا قوة لك، وإلا فماذا بإمكانك أن تفعل إزاء وضع كهذا؟ أتساءل دائماً كلما اضطررت لمتابعة نشرات الأخبار (العالمية الصنع والتوجه) ما الفائدة التي نجنيها من هذه النشرات؟ من هذا الضغط المتتالي؟ من تمرين الخوف المتصل؟ ماذا يمكننا أن نفعل أو نقول ونحن بإزاء مذيع وسيم لامع الوجه، شديد التأنق، يرمينا برصاص من الكلمات والأحداث والانفجارات، يقذف في وجوهنا بجثث القتلى في الحادث الفلاني ولا يوفر الجرحى، كساحر يكشف عن حرائق في الغابات ونيران في الأسواق، وحوادث دهس وحشية! وبابتسامة لا مبرر لها يعلن عن فشل الحكومات في مواجهة كوارث البيئة والطبيعة وتوفير الوقود للشتاء وتشكيل الوزارات، ونحن نبتلع الكوارث وننتظر المزيد جالسين على مقاعدنا كدبب قطبية تتعثر في فرائها وخوفها، بينما تعبر على الشاشة العملاقة أمامنا طوابير اللاجئين بوجوه رجال بلا أعين وأطفال بلا غد، ونساء فقدن الأمل بوجود بصيص ضوء في نهاية طابور اللجوء! ونحن لا نزال ننظر ونتابع والبندقية فوق رؤوسنا!! وأسأل نفسي لماذا علينا أن نفعل…
السبت ٢١ أغسطس ٢٠٢١
على امتداد يومين تقريباً استمعت إلى كتاب صوتي يتتبع سيرة حياة الروائي الكبير نجيب محفوظ، كما كتبها الصحفي المصري محمد شعير، في كتاب أصدره مؤخراً بعنوان (أعوام نجيب محفوظ: البدايات والنهايات)، معتمداً على نص مؤسس ومهم جداً كتبه نجيب بنفسه في عشرينيات القرن الماضي، وكان لا يزال في بدايات حياته، في المرحلة الثانوية تقريباً، وجعل عنوانه (الأعوام) مستلهماً السيرة المعروفة لعميد الأدب العربي طه حسين التي كتبها بعنوان (الأيام). في كتابه، يواصل محمد شعير الحفر في أرض ممتدة ومليئة بالخفايا والفرائد والطرائف والأسرار، تلك هي حياة ومشروع نجيب محفوظ السردي الضخم والشاسع جداً، فبعد كتابه المهم والقيم (أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة) يأتي هذا الكتاب ليسد فجوة ربما، لطالما تساءل عنها الصحفيون ومحبّو نجيب محفوظ، ولطالما سئل هو شخصياً عنها في العديد من اللقاءات: لماذا لم تكتب سيرتك أو مذكراتك أو قصة حياتك؟ فكان، رحمه الله، يقول: الذين يكتبون قصة حياتهم لديهم ما يحكونه، أما أنا فكاتب أعيش حياة بسيطة، فماذا سأروي؟ وبذهنية المحقق الذكي يأخذ محمد شعير على عاتقه مسؤولية الرد على نجيب محفوظ ليثبت له أنه قد كتب سيرته بالفعل عندما نثر حياته وشخصيات حياته في كل أعماله الروائية، ومن خلال نص (الأعوام)، إضافة لتفكيك معظم رواياته وقصص محفوظ القصيرة، ضافراً من هذا كله سيرة حياة حافلة وشديدة…
السبت ١٤ أغسطس ٢٠٢١
تعرفت على مصطلح (إدارة الوقت) أثناء دراستي الجامعية، والتخصص في علم الإدارة العامة، بدا لنا يومها مصطلحاً جديداً، وغير مطروق في حياتنا العامة، فقليلون في تلك السنوات من كانوا يتصورون أن الوقت من الأهمية، بحيث تُفرد له إدارة وتخصص علمي مستقل، وفيما بعد اتسعت مفاهيم الإدارة واهتمامات الإدارة وعلومها، فظهرت إدارات لكل اهتمام وتخصص: كإدارة الإبداع، إدارة الصناعات الثقافية، إدارة الأزمات، المخاطر، وغيرها كثير، بما يواكب تطورات وتعقيدات الحياة بشكل عام. أما إدارة الألم أو العناية بالمريض بعد العملية الجراحية فعلم قائم بحد ذاته، تعتني به المستشفيات، ويتخصص فيه أكثر الطلاب نباهة، وهو التخصص الذي يعنى بإدارة غرف الإنعاش أو إدارة حالة المرضى الخارجين من غرف العمليات ما بعد التخدير، في الحقيقة لقد خطر ببالي هذا التخصص وأنا أتصفح كتاباً في غاية الأهمية، هو (ألف اختراع واختراع- رحلة إلى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية). وكأي عربي ومسلم، فأنت لا تحتاج لمن يثبت لك مدى إسهام الحضارة الإسلامية وتأثيرها في الحضارة الإنسانية الكبرى، أنت تعرف مجموعة كبيرة من أسماء العلماء والمخترعين والاختراعات والكتب، التي أسهمت بها هذه الحضارة في إثراء وتطوير الحياة على سطح الأرض، خلال قرون من العنفوان الحضاري، وبلغة عربية صافية استطاعت أن تستوعب أبناء كل البلدان، التي اندمجت ضمن الامبراطورية الإسلامية. إن كتاب (ألف اختراع واختراع) يضيف إليك الكثير…
الأربعاء ١١ أغسطس ٢٠٢١
لا يمتلك معظم الأتراك ثقافة الاعتراف بالآخر، إنهم لا يرون ثقافة سوى ثقافتهم ولا لغة غير لغتهم، هم الذين قدموا منذ قرون طويلة من خارج مناخ المنطقة التي تمددوا فيها، متخذين من إسطنبول عاصمة لهم، بعد أن تمكن سلطانهم محمد الثاني من انتزاعها من الرومان، في تلك الأزمنة البعيدة تبلور المشروع التوسعي وبزغت إمبراطورية العثمانيين الذين سيطروا على شعوب وثقافات لا حصر لها، ومع ذلك وكمعظم أبناء الإمبراطوريات الذين لا يتنازلون عن شعور التفوق لم ينجح العثمانيون في التقارب مع تلك الشعوب. اليوم، يضخ الأتراك عبر الدراما التلفزيونية عشرات المسلسلات عبر القنوات العربية ومنصات الأفلام ذات الانتشار الجماهيري مثل «نتفليكس»، وهم بذلك يحاولون تغيير صورتهم في أذهان شعوب منطقة لا تحمل الكثير من الود لهم، نتيجة حكم بائس امتد أكثر من ستة قرون، كما ينفقون الملايين على المسلسلات التاريخية التي ترصد معارك أبناء عثمان وبطولاتهم وقدراتهم الخارقة التي مكنتهم من وراثة الإمبراطورية الرومانية والنهوض على أنقاضها! إن تركيا واحدة من الدول التي تستقبل تدفقاً سياحياً هائلاً في السنوات الماضية، ويأتي العرب في مقدمة هؤلاء، ومع ذلك فإنك ستلف حول نفسك كالثعلب التائه سبع لفات دون أن تجد من يتفاهم معك بلغة مفهومة! يعتقد الأتراك أن على الآخرين أن يتحدثوا لغتهم وليس العكس، وهو المنطق نفسه الذي حكموا به المنطقة العربية،…
الخميس ٠٥ أغسطس ٢٠٢١
فيما مضى، حتى قبل دخولنا عصر العولمة، كان المناهضون لثقافة السوق والرأسمالية، إضافة لعلماء الاجتماع والسلوك يحذرون من تفاقم ثقافة الاستهلاك، لأنها ثقافة ذات مردود لاإنساني على سلوكيات الفرد والمجتمع معاً، فالأفراد الأكثر استهلاكاً غالباً ما يبدون أنانيين، غير مبالين باحتياجات الآخرين، وشرهين مادياً. إن سلوك الاستهلاك يحتاج إلى وفرة مادية قابلة للإنفاق والاستهلاك الدائم دون الالتفات إلى ضرورته أو أهميته، وأخيراً فإن هؤلاء الاستهلاكيين وبسبب أنانيتهم وشهوة الاستهلاك المتفاقمة لديهم، يضرون بالموارد وبالبيئة، وبمشاعر الآخرين دون اهتمام أو انتباه أو إدراك! ورغم التحذيرات وآلاف الكتب والمقالات والمحاضرات، إلا أن شراسة السوق كانت أقوى، واستطاع أربابها أن يفرضوا نفوذهم وتحديداً قانون وثقافة الاستهلاك، التي ما عاد أحد ينتبه لها، بعدما تحولت إلى قانون حياة وسلوك عند غالبية الناس وتحديداً في مجتمعات وأوساط الوفرة والغنى، الجديد هو ما جاءت به عولمة التكنولوجيا، ومواقع التواصل، وظاهرة التسوق الافتراضي، التي أشاعت شهوة الاقتناء المتفاقمة وطورتها عبر مضامين وتأثير مشاهير الـ(فيسبوك، سناب شات، إنستغرام..)! يقوم رواد هذه المواقع والأكثر شهرة ونشاطاً فيها بتصوير كل شيء يقتنونه، ومن ثم عرضه على متابعيهم، عبر رسائل متدفقة ومستمرة: الملابس، السيارات، المطاعم التي يرتادونها، المصايف التي يترددون عليها، الأطعمة التي يتناولونها مع عائلاتهم وأصدقائهم، منازلهم، مجوهراتهم، حقائبهم وحتى الكتب التي يشترونها من معارض الكتب. بعد عرض كل هذا…
الأربعاء ٠٤ أغسطس ٢٠٢١
(الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون) ما يعني أن هناك من يرتكب الخطأ، وهناك من يتكبد دفع الفاتورة نيابة عنه، هناك آباء يقسون ويهينون، ويمارسون أبشع أساليب التربية والنتيجة أطفال ناقمون على الحياة والآخرين، وأما كراهيتهم واحتقارهم لذواتهم فحدث ولا حرج! في العبارة (والتي يقال إنها وردت كآية في التوراة) فإن الحصرم هو العنب غير الناضج، ويتميز بطعمه وتأثيره السيئ الذي يؤثر على الأسنان، والمعنى أن الآباء يقومون أحياناً بأفعال معيبة أو فاضحة أو قاسية أو ذات أثر مدمر على الأبناء، فيدفع هؤلاء الأبناء الثمن غالياً، وبشكل يصعب ترميمه أو إصلاحه لاحقاً. هل يقصد الآباء تدمير أبنائهم؟ وهنا لا بد من السؤال الآخر الأكثر ضرورة: هل يعي الآباء حجم الدمار الذي يسوقونه بإصرارهم على تربية أبنائهم، وفي نهج تربوي قاس أو مبالغ في صرامته إلى درجة العنف أو الوحشية أحياناً؟ قد يستغرب البعض السؤال، لكن ذلك يحدث كل يوم، ولعشرات الأبناء والبنات، الذين يلجؤون إلى مراكز الاستشارات والمعالجين النفسيين لإصلاح الخلل، الذي سببه لهم آباؤهم للأسف! هناك أدباء كبار في حجم فلاسفة وروائيين غيّروا شكل الرواية، وأسسوا مدارس ومناهج فكرية، إلا أنهم عاشوا حياتهم يعانون الأمرين من ذلك الكسر المؤلم، الذي تسبب فيه آباؤهم لهم خلال سنوات التنشئة، وحتى خلال مراهقتهم، وأن قراءة (رسالة إلى الوالد) التي وجهها كافكا لوالده، تشرح…
الخميس ٢٩ يوليو ٢٠٢١
عن نفسي فإنني أجد الأمر غريباً (الغرابة لا تخص حدوث الأمر وإنما قبوله واعتباره عادياً) كما أنه مثير للتساؤل، ومحمل بالاتهامات أيضاً دون الدخول في متاهة لمن توجه الاتهامات وما مدى موضوعيتها أو حتى أهميتها! أما الأمر الغريب فهو قبول الوالدين والأسر والمجتمع بشكل عام لحالة الانفصام بين معظم الأطفال والمراهقين الصغار، وبين كل ما له علاقة بثقافتهم ولغتهم العربية وعادات وتقاليد أهلهم ولهجتهم الدارجة، فلا يبدو غريباً للوالدين أن لا يجيد ابنهما الحديث بلغة عربية صحيحة أو حتى بلهجته المحلية الدارجة، وينفر من كل ما له علاقة بتفاصيل ثقافته وهويته. لماذا يبدو هذا الأمر غريباً؟ لأن الإنسان كائن ذو امتداد يتجاوز زمن اليوم إلى الماضي البعيد، الذي يتواصل مع اليوم والمستقبل بتماسك وثيق، إن من أهم ما يصحبنا طيلة الحياة ومهما تطور بنا الزمن هو سؤال الهوية: من نحن؟ لذلك يسألك الآخر دائماً: من أنت؟ بمجرد أن يتعرف على اسمك، ومن أي البلاد بمجرد أن يتحدث إليك؟ وأين تقع بلادك؟ وماذا لديكم.. الخ! إنها الأسئلة التي تقدم أجوبتها للآخر حقيقة هويتك، بصمتك الثقافية، الحمض النووي للجماعة التي تنتمي إليها، وهو بهذه الأسئلة يريد أن يتعرف عليك، وعلى موقعك من ثقافتك ومن الثقافة الإنسانية ليحدد الطريقة التي سيتعامل بها معك! وعليه فكيف يقدم إنسان لا ينتمي لثقافته ولا يعرف شيئاً…
الأربعاء ٢١ يوليو ٢٠٢١
في كل مرة يطرق علينا العيد أبواب النهار، تهل تذكارات كثيرة مخزونة في ذاكرتنا، عن أعياد الطفولة والمراهقة، عن المغامرات التي خضناها للحصول على العيدية، عن الحماقات التي دفعنا ثمنها لقاء أن نحظى بشيء من اللهو البريء دون علم الأهل، كما نستعيد تلك الأيام التي اضطررنا أن (نعيد) خارج الإمارات، فمتى عيدنا في الخارج؟ وأين؟ ولماذا؟ وكيف كان العيد هناك؟ هل اختلف؟ هل كان أفضل أم أن الأمر سيان؟ في تلك الأيام التي صارت تجري للخلف سريعاً وتندس في أدراج التذكارات، كان الناس ما زالوا ينظرون للعيد بقدسية ومهابة تليق به، وكانت صلاة العيد احتفالاً دينياً لا يفوت من قبل جميع أفراد الأسرة، وكذلك طقوس ذبح الأضحية وتوزيعها، وزيارات الأهل واجتماع الأسرة على وليمة الغداء.. وغيرها، على الرغم من الإنهاك والتعب الذي يبدو واضحاً على الكبار الذين يظل بعضهم مستيقظاً لا يذوق طعم النوم ليلة العيد، منشغلاً بين الطبخ والإعداد والترتيب و.. الخ. في تلك الأيام التي لم نعد نملكها، كان أول ما يعنيه بالنسبة لنا هو الثياب الجديدة، والعيدية التي تمنح بكرم، واستعداد الكبار للذهاب لمصلى العيد مضمخين بالبخور والعطور، يحملون سجاداتهم وينضمون للجموع الساعية للصلاة، فإذا أفصحت الذاكرة عن كل مخزونها ضج الفضاء بأصوات التكبير تملأ جنبات المنزل والحي تنطلق من مساجد الأحياء، بينما تتسمر أمي وجدتي أمام…
السبت ١٧ يوليو ٢٠٢١
في زيارتي الأولى لمدينة فينيسيا داخلني شيء من النفور من المدينة لسبب أدركته مؤخراً يتعلق بعامل التوقيت، فليس من الحكمة أن تزور مدينة كفينيسيا في الشتاء، وهي المدينة المحاطة على الدوام بالمياه، حتى لتبدو للزائر وكأنها عروس بحر انبثقت من لجج محيط متلاطم، لقد حللت في أحد فنادقها الأنيقة المطلة على القنال الكبير في أيام شتائية عاصفة، فكان ذلك خطأً أدركته بعد فوات الأوان! لم أتمكن من فتح النافذة لا ليلاً ولا نهاراً، فقد اختلطت مياه الأمطار المنسكبة بغزارة من أفواه قرب مندلقة من سماء مكفهرة، مع مياه البحر الذي علا منسوبه ما أدى لاختلال منظومة الصرف الصحي في المدينة، فتحول الأمر إلى كارثة حقيقية في بعض المناطق! في تلك الأيام كنت قد ذهبت إلى فينيسيا لأنني كنت أزور مدينة ميونخ الألمانية لدواعي العلاج، فبسبب الآلام المبرحة التي أصابت قدمي وجدتني أطرق عيادة طبيب مختص بآلام القدم هناك، وكان طبيباً بارعاً من أصول مصرية، أفادتني علاجاته وبدأت أتحرك بشكل جيد، ما حدا بي بعد عدة أيام لزيارة بعض مدن إيطاليا القريبة، فزرت فلورنسا وفيرونا وفينيسيا، وفي أحد فنادق الأخيرة نسيت كتاباً محبباً كنت أقرؤه بنهم. في العام 2015، عدت إلى فينيسيا الإيطالية أو ما كانت تعرف في العصور الوسطى باسم البندقية، فقضيت فيها خمس ليالٍ بالتمام والكمال، كان الجو أفضل…
الإثنين ١٢ يوليو ٢٠٢١
تغيرت الأفكار حول تناولنا ونظرتنا لكل شيء تقريباً، هذا ليس من باب المقولات الدارجة أو المتكررة، فلقد تغير كل شيء حولنا، تغير المنظور الذي نطل من خلاله على العالم من حولنا، في ما يخص علاقاتنا، اهتماماتنا، ومحيطنا.. إلخ. إن شيئاً شديد الوضوح قد تغير بشكل نهائي، لا رجعة فيه، هذا التغيير له علاقة بثورة المعرفة والمعلوماتية، ووسائل التواصل الحديثة، إضافة لجائحة «كورونا»، بطبيعة الحال. إن هذا التغيير في الحقيقة ليس سهلاً، لكنه يحتاج إلى حكمة وشجاعة لقبوله والتعايش معه، دون وقوع في الرفض أو الحنين الفائض للماضي. عندما كتبت عن انطباعاتي خلال الأسفار والرحلات التي قمت بها خلال أكثر من عشرين عاماً، سألني قارئ فاضل: لماذا لم تكتبي تفاصيل المدن التي قمتِ بزيارتها، جغرافياتها، مناخاتها، عادات أهلها، غرائب ما فيها، ما صادفك من المواقف والمآزق… وغير ذلك؟ وبينما هو يسأل، كان عقلي يجري مقارنات واستعادات معقدة، مرت بذاكرتي سريعاً عناوين لا تحصى، وشخصيات مشهورة في أدب الرحلة، منذ الرحلة الخرافية للإيطالي ماركو بولو، إلى قارة آسيا وبلاد الصين في القرون الوسطى، إلى رحلات ابن بطوطة والمسعودي والمقدسي وغيرهم، ممن أسسوا لأدب أو علم الرحلات. لقد تغير أدب الرحلة تماماً، لم يعد مقبولاً أن تذهب إلى الهند، لتعود بكتاب تقول فيه بأنك شاهدت شعوباً تؤمن بمئات الأديان، وتتحدث آلاف اللغات واللهجات،…
السبت ١٠ يوليو ٢٠٢١
وضعتُ قائمة لمئة كتاب ورواية سبق لي أن قرأتها في سنوات سابقة وحتى قبل بضعة أيام، كتب وروايات تنتمي لثقافات مختلفة، قادمة من عوالم الشرق والغرب، من القرن الرابع عشر حتى القرن الواحد والعشرين، كتبها حكّاؤون أفذاذ، وحكّاءات عظيمات، ضجت خيالاتهم بالقص، وامتلكت قلوبهم ناصية اللغة حتى صارت ملعبهم وتاريخهم، فقدموا لنا مدونة سردية شاهقة تعج بالروايات والقصص، تجعلني كلما تصفحت شيئاً منها أتساءل أحياناً: ماذا كنا سنفعل لولا هذه الكتب، ولولا هذه الروايات والقصص؟ أحالني السؤال إلى الحكاءة الأولى والأشهر، المغامرة وحاملة القنديل المرتعش في يدها وهي تقطع ذاك الطريق الطويل الذي تجاوز ألف ليلة وليلة، شهرزاد التي واجهت رعب خوفها من الموت على يد جلاد كان يتسلى بقطع رؤوس النساء، فظهرت كحكاءة تلهيه بقصص تموج بالمغامرات والتشويق والحب والبطولة والأساطير، ما أنساه الانتقام والرؤوس التي تقطر دماً كل ليلة، لقد أنقذت الحكايات حياة شهرزاد وحياة ألف امرأة وكل النساء! لقد أنقذت الحكايات حياة عشرة أشخاص (سبع شابات وثلاثة شبان) يفرون من الطاعون الأسود الذي انتشر في مدينتهم فلورنسا، ويلجؤون إلى دير يختبئون فيه حتى ينجلي الوباء، يمرر هؤلاء الشباب الوقت في الحكي، وينتصرون به على المخاوف ووحش الانتظار المتربص خلف البوابات والأسوار، يحكون 100 حكاية عن أنفسهم وتجاربهم، تموج بالمقالب والطرائف وقصص الحب ومفارقات الحياة، حتى انجلاء الغمة!…
الأحد ٠٤ يوليو ٢٠٢١
بعد عمر من الأحلام والتمنيات، بعد طول انتظار على أمل أن يحدث تغيير في الشكل والجوهر.. نعم، في شكل سياسات الكثير من بلداننا العربية وفي جوهر أداءات هذه البلدان، وبعد أن تعبنا من المراوحة في المكان نفسه، كحراس يراقبون تدفق الليل في شوارع وأزقة المدينة، ويرقبون مضي الزمن البليد، كنا مثل هؤلاء نمضغ الاتهامات نفسها التي تكتب ضدنا في تقارير التنمية البشرية والاقتصادية وفي نشرات الأخبار السياسية، ونكرر الكلمات المهينة ذاتها: بلدان نامية، بلدان نائمة، بلدان متخلفة، بلدان عالم ثالث.. الخ! بعد هذا العمر الذي قضيناه كما فزاعات مغروسة في حقول جرداء تصفر فيها الريح، ولا طيور تحوم في الأفق، لانزال في المكان نفسه، في الحقول نفسها، نريد أن نقول إننا تغيرنا، تطورنا، ثار شبابنا في بلدان عدة وغيروا أنظمتهم وأوصلوها إلى مرافئ أخرى ذات بحار وحرية ونوارس ورجال يسيرون بلا بنادق وعقول مملوءة بالأوهام ورغبات الهروب، ونساء يمشين في شوارع مدنهن بلا وجل أو فزع أو تردد، لكننا لانزال نراوح في المكان نفسه؛ بل وأسوأ من المكان الذي كان! لبنان بلد عربي، كان جميلاً، أخضر، وكان مبشراً وواعداً بالثقافة والخيرات والوعي والحرية والسيادة والديمقراطية، صار أقصى ما يطلبه إنسان لبنان قوت يومه وقليلاً من الأمان وأن يطمئن إلى أنه سيموت على أرض لبنان بكرامة، بعدما عبثت به كل أيادي…