عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

الحياة من ثقب الباب

السبت ٠٨ يناير ٢٠٢٢

أحياناً، حينما تقع عيناي على بعض مقالاتي التي كتبتها في الأعوام الماضية، أتوقف وأفكر: متى كانت هذه الكتابة يا ترى؟ متى كتبت هذه المقالات؟ وأجيب نفسي كمن اكتشف شيئاً غريباً: لم يكن ذلك منذ أمد طويل، لقد كان منذ سنتين فقط! وأعود لأقول: كأننا كنا في حياة أخرى، كأننا عشنا حياة مختلفة غير هذه التي نحياها اليوم؟ نحن في وضع جيد، نتمتع بصحة جيدة على صعيدنا كأفراد، لم نفقد أحداً من أحبتنا، ولم تتدهور حياتنا الوظيفية، نعم، ونحمد الله على ذلك كثيراً. لكن منذ متى يعيش الإنسان حياته من خلال ثقب الباب، يتفرج على ما في أفنية البيوت أو الغرف الأخرى بالنظر من وراء زجاج النوافذ أو قضبان الأسوار؟ الفرجة والطمأنينة الباهتة لا تصنع حياة حقيقية ومطمئنة وإنسانية واجتماعية ومبهجة أبداً، بقدر ما تمنحنا حياة وهمية، حياة تحول الإنسان إلى ما يشبه تلك التماثيل طبق الأصل في متحف مدام توسو للشمع، تماثيل تحاكي أصحابها الذين تمثلهم لكنها في النهاية ليست أكثر من تماثيل ستظل مجمدة في أماكنها ما لم يحركها أحد، ستظل بلا روح، بلا رائحة، بلا صوت، بلا أية حرارة.. بلا حياة! وأقرأ مقالات كتبتها في العام 2015 والعام 2017، وأعود إلى الوراء أكثر فأطالع مقالات كنت قد بدأت بها حياتي في الكتابة للصحافة العام 1998، أو قبلها بعام،…

عام جديد وسعيد

السبت ٠١ يناير ٢٠٢٢

وأنت تسير وسط الجموع الحالمين، واللاهين، الممتلئين ببهجة الاحتفال بوداع عام واستقبال آخر، ليس في أدمغتهم سوى صور الاحتفالات والألعاب النارية، والأغنيات وجلسات العشاء الضاجة بالضحك والثرثرة والطعام الشهي، ستقول لنفسك لأكون مثل الجميع وانطلق صوب العام الجديد مثلهم. تحاول أن تودع عامك المنسحب بكل ما كان فيه، متطلعاً إلى عام آخر تتمناه أن لا يشبه الأعوام الأخيرة التي عشتها كيفما اتفق، لكن إذ يقع بصرك على تلك الطفلة، وهي تركض ببهجة لتلحق أبويها، سعيدة ببالونها الذي تحمله وقد كتب عليه (سنة جديدة سعيدة)، عندها تقول لنفسك: ليتني أنسى كل ما عبرته وأعود كهذه الطفلة لا أعرف ولا أعلم شيئاً من المعارف والعلوم والأخبار والمآسي التي جعلتني لا أضحك كما تفعل هذه الصغيرة ! تعتقد أنه بإمكانك أن تودع ما كان، تريد جاداً أن تنسى مواقف ومآسي وأحزان وغصات العام الذي أغلقت صفحته، تكتشف أن الأمر يبدو صعباً بعض الشيء، وأن النسيان ليس بالبساطة التي تتوقعها، تكتشف أنه لا يمكنك أن تنسى حتى وإن رغبت وبإصرار ورغبة مؤكدة، مع ذلك فستحاول أن تفعل ما وعدت أن تفعله العام الفائت ولم تقدر ! إن كل ما تريد نسيانه من المواقف والأشخاص الذين كنت تحتفي بوجودهم في حياتك، أو تتوجع بسببهم، أو كنت متوجساً منهم أو مبتهجاً بهم، كل ما تريد نسيانه…

في مديح الإخلاص!

الثلاثاء ٠٧ ديسمبر ٢٠٢١

من لم يقرأ للكاتب النمساوي ستيفان زيفايغ، فقد فاته، حسب رأيي، الكثير من الشغف والتاريخ وأدب الكتابة رفيع المستوى، كما فاته الوقوف أمام المعنى الهائل والمخيف لقلق الإنسان حيال أسئلة الوجود الكبرى، وعبثية الحياة، وسط الحروب والدمار، تلك الهواجس التي وقف أمامها «زيفايغ»، فلم يحتمل وطأة الحياة في ظلها، لأنه كان يؤمن بأن الإخلاص للحياة، يعني أن نحياها بأمان وسلام، دون خوف ورعب وتهديد! الإخلاص للحياة، ذكرني هذا المعنى بأصدقاء سألوني يوماً، عن المدن التي زرتها، أو تلك التي أحلم بالذهاب إليها؟ قلت لهم ربما لم أسافر كما ينبغي لمسافر أن يكون مخلصاً لترحاله وشغفه، طالما خالط سفري ميل نحو التباهي أو العبث، إن السفر علم عظيم، لا مجرد تمضية وقت فقط، علم توجهه البصيرة، ويقود خطاه التأمل في مسارات التاريخ والجغرافيا والإنسان. إن البصيرة نعمة كبرى، إنها إعمال للعقل بعمق في كل ما حدث، وما يحدث حولك، فقد يقودك التفكر لما يمكن أن يكون عليه الغد، كما قاد الخوف ستيفان زيفايغ، إلى نهايته المأساوية! تذكرت ستيفان زيفايغ بكل فلسفته، وتحديداً، قصته ذات الدلالة العميقة «مانديل بائع الكتب القديمة»، التي يقول فيها «أما أنا، فقد نسيت مانديل لأعوام، أنا الذي كان عليه أن يعرف أننا لا ننتج الكتب، إلا لكي نبقى على صلة بالبشر، فيما وراء الموت، فندافع بذلك عن…

صورة مشوهة!

السبت ٢٥ سبتمبر ٢٠٢١

الآباء والأمهات الذين يحولون أبناءهم لمشاريع فرجة على وسائل التواصل لا يقومون بعمل عظيم يستحقون عليه التشجيع أبداً، ولا أدري سبب إقبال الناس على حسابات الأطفال الذين يجهزهم أهلهم من عمر الأربع سنوات لينضموا إلى جموع مشاهير السوشال ميديا، فمعظم هذه الحسابات تشكل اختراقاً لحقوق الطفل، وانتهاكاً لعالم ونفسية الطفولة. يظهر العديد من الأطفال في هذه الحسابات متحدثين بارعين بل ومثيرين للدهشة، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول العلاقة بين عمر الطفل والقدرات أو ملكات التفكير التي يفترض أن تكون لديه، إضافة لقدراته في الربط والاستنتاج ومهارات النطق والتعامل مع المواقف والأسئلة و… فكيف لطفل في الرابعة أن يتحدث بهذه الطريقة التي توحي لنا بأننا أمام روائي بارع أو محاضر متمرس؟ لندع جانباً تفسير أنه عبقري! الأمر الآخر يتعلق بإدخاله إلى عوالم الكبار، التحدث معه عن أمور ليست في متناول عمره كالمكياج، والملابس، والماركات والفنادق ودرجات السفر الفخمة.. لكن لماذا؟ ألا نفكر بغيرنا؟ ألا ندفع هؤلاء الصغار دفعاً للأنانية والفردية وحب المظاهر والتباهي أمام أقرانهم؟ ثم تلك الحوارات المستفزة حول المدرسة والمدرسين، ودفع الطفل للتلفظ بعبارات تنم عن سخرية وتهكم واضحين ابتزازاً لضحك المتابعين لا أكثر! ماذا عن تأثير ذلك على علاقة الطفل بمدرسته ومعلميه خارج الانستغرام واليوتيوب وبمنظومة القيم عامة؟؟ حديث بعض الأمهات في مقاطع فيديو يسجلنها وينشرنها…

نشرات الأخبار.. لماذا؟

السبت ١١ سبتمبر ٢٠٢١

الجلوس في مواجهة شاشة التلفاز، ومتابعة نشرات الأخبار، يشبهان إلى حد كبير الجلوس أمام رجل مسلح قيّد يديك خلف ظهرك وشد وثاق رجليك، ولم ينس أن يربط فمك بمنديل عقده خلف رأسك، إضافة لكل ذلك فإنه يصوب إليك بندقية رشاشة، وأنت جالس في قاع روحك المنهكة وعجزك المتوالي، لا حول ولا قوة لك، وإلا فماذا بإمكانك أن تفعل إزاء وضع كهذا؟ أتساءل دائماً كلما اضطررت لمتابعة نشرات الأخبار (العالمية الصنع والتوجه) ما الفائدة التي نجنيها من هذه النشرات؟ من هذا الضغط المتتالي؟ من تمرين الخوف المتصل؟ ماذا يمكننا أن نفعل أو نقول ونحن بإزاء مذيع وسيم لامع الوجه، شديد التأنق، يرمينا برصاص من الكلمات والأحداث والانفجارات، يقذف في وجوهنا بجثث القتلى في الحادث الفلاني ولا يوفر الجرحى، كساحر يكشف عن حرائق في الغابات ونيران في الأسواق، وحوادث دهس وحشية! وبابتسامة لا مبرر لها يعلن عن فشل الحكومات في مواجهة كوارث البيئة والطبيعة وتوفير الوقود للشتاء وتشكيل الوزارات، ونحن نبتلع الكوارث وننتظر المزيد جالسين على مقاعدنا كدبب قطبية تتعثر في فرائها وخوفها، بينما تعبر على الشاشة العملاقة أمامنا طوابير اللاجئين بوجوه رجال بلا أعين وأطفال بلا غد، ونساء فقدن الأمل بوجود بصيص ضوء في نهاية طابور اللجوء! ونحن لا نزال ننظر ونتابع والبندقية فوق رؤوسنا!! وأسأل نفسي لماذا علينا أن نفعل…

أعوام نجيب محفوظ

السبت ٢١ أغسطس ٢٠٢١

على امتداد يومين تقريباً استمعت إلى كتاب صوتي يتتبع سيرة حياة الروائي الكبير نجيب محفوظ، كما كتبها الصحفي المصري محمد شعير، في كتاب أصدره مؤخراً بعنوان (أعوام نجيب محفوظ: البدايات والنهايات)، معتمداً على نص مؤسس ومهم جداً كتبه نجيب بنفسه في عشرينيات القرن الماضي، وكان لا يزال في بدايات حياته، في المرحلة الثانوية تقريباً، وجعل عنوانه (الأعوام) مستلهماً السيرة المعروفة لعميد الأدب العربي طه حسين التي كتبها بعنوان (الأيام). في كتابه، يواصل محمد شعير الحفر في أرض ممتدة ومليئة بالخفايا والفرائد والطرائف والأسرار، تلك هي حياة ومشروع نجيب محفوظ السردي الضخم والشاسع جداً، فبعد كتابه المهم والقيم (أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة) يأتي هذا الكتاب ليسد فجوة ربما، لطالما تساءل عنها الصحفيون ومحبّو نجيب محفوظ، ولطالما سئل هو شخصياً عنها في العديد من اللقاءات: لماذا لم تكتب سيرتك أو مذكراتك أو قصة حياتك؟ فكان، رحمه الله، يقول: الذين يكتبون قصة حياتهم لديهم ما يحكونه، أما أنا فكاتب أعيش حياة بسيطة، فماذا سأروي؟ وبذهنية المحقق الذكي يأخذ محمد شعير على عاتقه مسؤولية الرد على نجيب محفوظ ليثبت له أنه قد كتب سيرته بالفعل عندما نثر حياته وشخصيات حياته في كل أعماله الروائية، ومن خلال نص (الأعوام)، إضافة لتفكيك معظم رواياته وقصص محفوظ القصيرة، ضافراً من هذا كله سيرة حياة حافلة وشديدة…

ألف اختراع واختراع

السبت ١٤ أغسطس ٢٠٢١

تعرفت على مصطلح (إدارة الوقت) أثناء دراستي الجامعية، والتخصص في علم الإدارة العامة، بدا لنا يومها مصطلحاً جديداً، وغير مطروق في حياتنا العامة، فقليلون في تلك السنوات من كانوا يتصورون أن الوقت من الأهمية، بحيث تُفرد له إدارة وتخصص علمي مستقل، وفيما بعد اتسعت مفاهيم الإدارة واهتمامات الإدارة وعلومها، فظهرت إدارات لكل اهتمام وتخصص: كإدارة الإبداع، إدارة الصناعات الثقافية، إدارة الأزمات، المخاطر، وغيرها كثير، بما يواكب تطورات وتعقيدات الحياة بشكل عام. أما إدارة الألم أو العناية بالمريض بعد العملية الجراحية فعلم قائم بحد ذاته، تعتني به المستشفيات، ويتخصص فيه أكثر الطلاب نباهة، وهو التخصص الذي يعنى بإدارة غرف الإنعاش أو إدارة حالة المرضى الخارجين من غرف العمليات ما بعد التخدير، في الحقيقة لقد خطر ببالي هذا التخصص وأنا أتصفح كتاباً في غاية الأهمية، هو (ألف اختراع واختراع- رحلة إلى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية). وكأي عربي ومسلم، فأنت لا تحتاج لمن يثبت لك مدى إسهام الحضارة الإسلامية وتأثيرها في الحضارة الإنسانية الكبرى، أنت تعرف مجموعة كبيرة من أسماء العلماء والمخترعين والاختراعات والكتب، التي أسهمت بها هذه الحضارة في إثراء وتطوير الحياة على سطح الأرض، خلال قرون من العنفوان الحضاري، وبلغة عربية صافية استطاعت أن تستوعب أبناء كل البلدان، التي اندمجت ضمن الامبراطورية الإسلامية. إن كتاب (ألف اختراع واختراع) يضيف إليك الكثير…

التاريخ لا يشفع أحياناً!

الأربعاء ١١ أغسطس ٢٠٢١

لا يمتلك معظم الأتراك ثقافة الاعتراف بالآخر، إنهم لا يرون ثقافة سوى ثقافتهم ولا لغة غير لغتهم، هم الذين قدموا منذ قرون طويلة من خارج مناخ المنطقة التي تمددوا فيها، متخذين من إسطنبول عاصمة لهم، بعد أن تمكن سلطانهم محمد الثاني من انتزاعها من الرومان، في تلك الأزمنة البعيدة تبلور المشروع التوسعي وبزغت إمبراطورية العثمانيين الذين سيطروا على شعوب وثقافات لا حصر لها، ومع ذلك وكمعظم أبناء الإمبراطوريات الذين لا يتنازلون عن شعور التفوق لم ينجح العثمانيون في التقارب مع تلك الشعوب. اليوم، يضخ الأتراك عبر الدراما التلفزيونية عشرات المسلسلات عبر القنوات العربية ومنصات الأفلام ذات الانتشار الجماهيري مثل «نتفليكس»، وهم بذلك يحاولون تغيير صورتهم في أذهان شعوب منطقة لا تحمل الكثير من الود لهم، نتيجة حكم بائس امتد أكثر من ستة قرون، كما ينفقون الملايين على المسلسلات التاريخية التي ترصد معارك أبناء عثمان وبطولاتهم وقدراتهم الخارقة التي مكنتهم من وراثة الإمبراطورية الرومانية والنهوض على أنقاضها! إن تركيا واحدة من الدول التي تستقبل تدفقاً سياحياً هائلاً في السنوات الماضية، ويأتي العرب في مقدمة هؤلاء، ومع ذلك فإنك ستلف حول نفسك كالثعلب التائه سبع لفات دون أن تجد من يتفاهم معك بلغة مفهومة! يعتقد الأتراك أن على الآخرين أن يتحدثوا لغتهم وليس العكس، وهو المنطق نفسه الذي حكموا به المنطقة العربية،…

شهوة الاقتناء!

الخميس ٠٥ أغسطس ٢٠٢١

فيما مضى، حتى قبل دخولنا عصر العولمة، كان المناهضون لثقافة السوق والرأسمالية، إضافة لعلماء الاجتماع والسلوك يحذرون من تفاقم ثقافة الاستهلاك، لأنها ثقافة ذات مردود لاإنساني على سلوكيات الفرد والمجتمع معاً، فالأفراد الأكثر استهلاكاً غالباً ما يبدون أنانيين، غير مبالين باحتياجات الآخرين، وشرهين مادياً. إن سلوك الاستهلاك يحتاج إلى وفرة مادية قابلة للإنفاق والاستهلاك الدائم دون الالتفات إلى ضرورته أو أهميته، وأخيراً فإن هؤلاء الاستهلاكيين وبسبب أنانيتهم وشهوة الاستهلاك المتفاقمة لديهم، يضرون بالموارد وبالبيئة، وبمشاعر الآخرين دون اهتمام أو انتباه أو إدراك! ورغم التحذيرات وآلاف الكتب والمقالات والمحاضرات، إلا أن شراسة السوق كانت أقوى، واستطاع أربابها أن يفرضوا نفوذهم وتحديداً قانون وثقافة الاستهلاك، التي ما عاد أحد ينتبه لها، بعدما تحولت إلى قانون حياة وسلوك عند غالبية الناس وتحديداً في مجتمعات وأوساط الوفرة والغنى، الجديد هو ما جاءت به عولمة التكنولوجيا، ومواقع التواصل، وظاهرة التسوق الافتراضي، التي أشاعت شهوة الاقتناء المتفاقمة وطورتها عبر مضامين وتأثير مشاهير الـ(فيسبوك، سناب شات، إنستغرام..)! يقوم رواد هذه المواقع والأكثر شهرة ونشاطاً فيها بتصوير كل شيء يقتنونه، ومن ثم عرضه على متابعيهم، عبر رسائل متدفقة ومستمرة: الملابس، السيارات، المطاعم التي يرتادونها، المصايف التي يترددون عليها، الأطعمة التي يتناولونها مع عائلاتهم وأصدقائهم، منازلهم، مجوهراتهم، حقائبهم وحتى الكتب التي يشترونها من معارض الكتب. بعد عرض كل هذا…

جرائم الآباء!

الأربعاء ٠٤ أغسطس ٢٠٢١

(الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون) ما يعني أن هناك من يرتكب الخطأ، وهناك من يتكبد دفع الفاتورة نيابة عنه، هناك آباء يقسون ويهينون، ويمارسون أبشع أساليب التربية والنتيجة أطفال ناقمون على الحياة والآخرين، وأما كراهيتهم واحتقارهم لذواتهم فحدث ولا حرج! في العبارة (والتي يقال إنها وردت كآية في التوراة) فإن الحصرم هو العنب غير الناضج، ويتميز بطعمه وتأثيره السيئ الذي يؤثر على الأسنان، والمعنى أن الآباء يقومون أحياناً بأفعال معيبة أو فاضحة أو قاسية أو ذات أثر مدمر على الأبناء، فيدفع هؤلاء الأبناء الثمن غالياً، وبشكل يصعب ترميمه أو إصلاحه لاحقاً. هل يقصد الآباء تدمير أبنائهم؟ وهنا لا بد من السؤال الآخر الأكثر ضرورة: هل يعي الآباء حجم الدمار الذي يسوقونه بإصرارهم على تربية أبنائهم، وفي نهج تربوي قاس أو مبالغ في صرامته إلى درجة العنف أو الوحشية أحياناً؟ قد يستغرب البعض السؤال، لكن ذلك يحدث كل يوم، ولعشرات الأبناء والبنات، الذين يلجؤون إلى مراكز الاستشارات والمعالجين النفسيين لإصلاح الخلل، الذي سببه لهم آباؤهم للأسف! هناك أدباء كبار في حجم فلاسفة وروائيين غيّروا شكل الرواية، وأسسوا مدارس ومناهج فكرية، إلا أنهم عاشوا حياتهم يعانون الأمرين من ذلك الكسر المؤلم، الذي تسبب فيه آباؤهم لهم خلال سنوات التنشئة، وحتى خلال مراهقتهم، وأن قراءة (رسالة إلى الوالد) التي وجهها كافكا لوالده، تشرح…

هيا بنا نتعلم الإنجليزية!

الخميس ٢٩ يوليو ٢٠٢١

عن نفسي فإنني أجد الأمر غريباً (الغرابة لا تخص حدوث الأمر وإنما قبوله واعتباره عادياً) كما أنه مثير للتساؤل، ومحمل بالاتهامات أيضاً دون الدخول في متاهة لمن توجه الاتهامات وما مدى موضوعيتها أو حتى أهميتها! أما الأمر الغريب فهو قبول الوالدين والأسر والمجتمع بشكل عام لحالة الانفصام بين معظم الأطفال والمراهقين الصغار، وبين كل ما له علاقة بثقافتهم ولغتهم العربية وعادات وتقاليد أهلهم ولهجتهم الدارجة، فلا يبدو غريباً للوالدين أن لا يجيد ابنهما الحديث بلغة عربية صحيحة أو حتى بلهجته المحلية الدارجة، وينفر من كل ما له علاقة بتفاصيل ثقافته وهويته. لماذا يبدو هذا الأمر غريباً؟ لأن الإنسان كائن ذو امتداد يتجاوز زمن اليوم إلى الماضي البعيد، الذي يتواصل مع اليوم والمستقبل بتماسك وثيق، إن من أهم ما يصحبنا طيلة الحياة ومهما تطور بنا الزمن هو سؤال الهوية: من نحن؟ لذلك يسألك الآخر دائماً: من أنت؟ بمجرد أن يتعرف على اسمك، ومن أي البلاد بمجرد أن يتحدث إليك؟ وأين تقع بلادك؟ وماذا لديكم.. الخ! إنها الأسئلة التي تقدم أجوبتها للآخر حقيقة هويتك، بصمتك الثقافية، الحمض النووي للجماعة التي تنتمي إليها، وهو بهذه الأسئلة يريد أن يتعرف عليك، وعلى موقعك من ثقافتك ومن الثقافة الإنسانية ليحدد الطريقة التي سيتعامل بها معك! وعليه فكيف يقدم إنسان لا ينتمي لثقافته ولا يعرف شيئاً…

روائح العيد

الأربعاء ٢١ يوليو ٢٠٢١

في كل مرة يطرق علينا العيد أبواب النهار، تهل تذكارات كثيرة مخزونة في ذاكرتنا، عن أعياد الطفولة والمراهقة، عن المغامرات التي خضناها للحصول على العيدية، عن الحماقات التي دفعنا ثمنها لقاء أن نحظى بشيء من اللهو البريء دون علم الأهل، كما نستعيد تلك الأيام التي اضطررنا أن (نعيد) خارج الإمارات، فمتى عيدنا في الخارج؟ وأين؟ ولماذا؟ وكيف كان العيد هناك؟ هل اختلف؟ هل كان أفضل أم أن الأمر سيان؟ في تلك الأيام التي صارت تجري للخلف سريعاً وتندس في أدراج التذكارات، كان الناس ما زالوا ينظرون للعيد بقدسية ومهابة تليق به، وكانت صلاة العيد احتفالاً دينياً لا يفوت من قبل جميع أفراد الأسرة، وكذلك طقوس ذبح الأضحية وتوزيعها، وزيارات الأهل واجتماع الأسرة على وليمة الغداء.. وغيرها، على الرغم من الإنهاك والتعب الذي يبدو واضحاً على الكبار الذين يظل بعضهم مستيقظاً لا يذوق طعم النوم ليلة العيد، منشغلاً بين الطبخ والإعداد والترتيب و.. الخ. في تلك الأيام التي لم نعد نملكها، كان أول ما يعنيه بالنسبة لنا هو الثياب الجديدة، والعيدية التي تمنح بكرم، واستعداد الكبار للذهاب لمصلى العيد مضمخين بالبخور والعطور، يحملون سجاداتهم وينضمون للجموع الساعية للصلاة، فإذا أفصحت الذاكرة عن كل مخزونها ضج الفضاء بأصوات التكبير تملأ جنبات المنزل والحي تنطلق من مساجد الأحياء، بينما تتسمر أمي وجدتي أمام…