ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

اخلع حذاءك

آراء

سألني أحدهم على تويتر عن تعريف السعادة فقلتُ له “لا أعرف” وكل ما أعرفه هو أنني أجدها كل يوم في شيء جديد، وأظن بأنني أحتاج إلى عدة سنوات حتى أصل إلى تعريف مناسب لها، فالسعادة ليست قيمة مطلقة، بل إنها أحد أكثر متغيرات الحياة تقلباً وتشكلاً، تبعاً للناس والزمان والظروف.

كنت قبل عدة سنوات مع صديق في برلين، وكانت الحرارة تقترب من درجة التجمد، إلا أن صديقي أصر أن نحتسي القهوة على الطاولة الوحيدة التي تُرِكَت خارج المقهى، ولشدة البرد لم أكن قادراً على الإمساك بالكوب جيداً، حتى إن المارة كانوا يستغربون منا بينما كان الآخرون يجلسون في داخل المقهى الدافئ. رجوته أن نعود إلى الداخل فقال لي:

“سنسافر بعد يومين ونرجع لحرّ الصحراء مرة أخرى، فلا تستعجل”. ثم أطلق بصره تجاه الشارع وكان الدخان يخرج من فمه وأنفه كلما تنفّس. فكرت في كلامه قليلاً فأدركتُ بأنني كنت أهربُ من السعادة الطبيعية إلى سعادة مصطنعة. كنتُ أشتكي من الحر في بلادي، وعندما جئتُ إلى هذه المكان الذي من المفترض أن يشعرني بالسعادة، وجدتُني، لا إرادياً، أهرع إلى ما أشتكي منه مرة أخرى.

لماذا يربط أحدنا السعادة بزمنٍ معين؟ فبعضنا يقول: «سأمارس الرياضة عندما أحصل على ترقية في العمل، ويجب علي في هذه المرحلة أن أركّز في عملي أكثر”. كلا، لن تستطيع أن تركز وأنت تستنزف طاقتك وروحك على مدار الساعة، انظر في المرآة الآن وحاول أن تعد شعراتك البيض. هل انتبهتَ يوماً بأن أطفالك ما عادوا يشاهدون نفس البرامج التي كنتَ تشاهدها معهم عندما كانوا صغاراً؟ هل اكتشفتَ الآن بأن مقاس أحذيتهم قد تغير مرة أو مرتين دون أن تشعر؟ تكمن السعادة أحياناً في ترك الأشياء أكثر من الحصول عليها.

يخلط الناس كثيراً بين المتعة وبين السعادة، وهذا الخلط هو أحد أسباب تعاسة الإنسان وفقدانه البهجة في حياته. فالمتعة مادية وخارجية، مرتبطة بالأشياء من حولنا، كالسيارة والأموال، فإن صُدمت سيارتك رحلت فرحتك، وإن خسرت الأسهم عمّ الظلام في داخلك، وما أن يحصل أحدنا على متعة مادية ما حتى يبدأ التفكير بمتعة أخرى، فيفقد لذة الاستمتاع بما بين يديه. أما السعادة فإنها مرتبة أعلى، إنها النور الذي ينتشر في أوصالك كلما رأيتَ وجه من تحب.

السعادة هي أن تفقد الشعور بأوزان المادة، وبوزنك أنت أيضاً، فتصبح الخفّة مسيطرة عليك تماماً. السعادة أن تشعر بأنك لستَ في حاجة إلى أي شيء حتى نفسك، أن تكون روحك كالسماء، صافية وشفافة وتسمح لكل شيء بالمرور خلالها، ولكنها في نفس الوقت تُظِلّ كل شيء وتمنحه التفاؤل. ما أجمل أن يكون المرء مثل السماء، ينظر إليه الناس كلما فقدوا الأمل. إنها حالة (التسامح القصوى)، حيث يكون الحاضر هو الزمان والمكان الوحيدان اللذان تشعر بهما. عندما يصل أحدنا إلى هذه الحالة فإنه يسامح كل شيء مر في حياته لأنه كان جزءاً من تكوينه، عقباته ومشكلاته وأمراضه وخساراته، تجمّعت كلها الآن وأصبحت تذكاراً وُضِعَ على الرف. التسامح مع النفس هو أن ترى آلامك كشوكة صغيرة علقت برجلك بُرهة ثم نزعتها وأكملت المسير.

إن السعادة كالريح، عليك أن تفتح لها النوافذ حتى تدخل حياتك، وعليك أن تُمارس شيئاً يبهجك حتى تُعطي نصيبك الفرصة لكي يجدك. كيف يمكن لفنان تشكيلي أن يجد السعادة وهو يُفني يومه بين جدران المكاتب الإسمنتية؟ وكيف يمكن لدارس القانون أن يبتهج وهو يعمل في الإدارة المالية.

إن مِثْلَ هؤلاء الناس يفعلون أشياء كثيرة حتى يحصلوا على سعادة مؤقتة، يحضرون جلسات تأمل ويمارسون اليوغا ويستشيرون أطباء نفسيين ويتعاطون أدوية مهدئة، وقد تجدهم يقودون أرفه السيارات ويُسافرون إلى أجمل البلدان، إلا أنهم في داخلهم تُعساء، والسبب هو أنهم وضعوا ما حولهم في داخلهم، ولم يضعوا ما في داخلهم حولهم. ليس عليك أن تكون غنياً لكي تفعل ما تُحب، بل عليك أن تفعل ما تحب لكي تكون غنياً.

لا يمكننا أن نمارس السعادة من خلف زجاج النافذة، ولا يمكننا أن ننتظر السماء حتى تُمطر البهجة علينا، فالسعادة الحقّة هي التي تحركنا من الداخل للصعود إلى السماء، أو على الأقل، لنفتح الباب ونخرج إلى العالم. سينقضي العمر حتماً، ولَإِنْ ينقضي وأنت تحاول فعل ما تُحب، خيرٌ من أن ينقضي وأنت في حسرة على نفسك.

السعادة والألم صنوان، إنهما جناحا الحياة التي نحلق بهما، ولا يكاد يرتفع بنا أحدهما حتى يهبط بنا الآخر، وما أجمل أن نُدرك بأنه بعد كل هبوط يوجد صعودٌ جديد. كلما باغتني ألمٌ استبشرتُ بأن القادم أجمل، وبأن هنالك كمٌ من السعادة في انتظاري غداً إن استطعتُ أن أؤمن بهذه الفكرة، فعلى قدر الألم تكون المتعة، ولو كان غداً هو آخر يومٍ في حياتي لتفاءلتُ بأنه سيكون أفضل من اليوم.

يُحكى أن ضابطين كانا يأخذان أحذيتهما من قسم الملابس في الجيش استعداداً للسفر للقتال في حرب تخوضها بلادهما، فطلب أحدهما من البائع أن يعطيه حذاءً ضيقاً أصغر برقم واحد من مقاسه الأصلي. وعندما كانا في طريقهما إلى الجبهة سأله صديقه عن سبب فعلته الأمسية، فقال له: «لكي أجد السعادة عندما أخلع حذائي كل ليلة”. إن الخوف من فقدان السعادة هو أحد أسباب غيابها من حياتنا، والمتفائل الحقيقي ليس الذي يؤمن بوجود السعادة، بل هو من يصنعها بنفسه.

نُشرت هذه المادة في جريدة “البيان” الإماراتية بتاريخ 27 أغسطس 2011