سينما الملاكمة..صامدة في شباك التذاكر وبطـلة مرتين على منصة «الأوسكار»

منوعات

كانت الملاكمة في يوم ما رياضة أساسية ومهمة في الولايات المتحدة، نتحدث عن الحقبة الممتدة من بداية القرن الـ19 وحتى عام 1896، عندما تم تقنينها في نيويورك وبقية الولايات المتحدة تباعاً. بعد تلك المرحلة ازدهرت هذه الرياضة العنيفة بشدة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت كذلك قرناً كاملاً بعد تقنينها.

وهيمنت الولايات المتحدة على الرياضة طوال القرن الـ20، بسبب التنوع العرقي الذي يتمتع به نسيجها الاجتماعي، وضخامة قاعدة متابعي ومحبي الرياضة، الذين كانوا عامل جذب لوسائل الإعلام، التي صنعت تغطيات ضخمة لأهم المباريات، أثرت حتى في الشعوب الأخرى.

بعد انهيار حائط برلين، واندثار الشيوعية بدأت الهيمنة الأميركية على الملاكمة، تقل لصالح تلك الشعوب التي تحررت في أقاصي الشرق. فبرز ملاكمون عديدون من دول الاتحاد السوفييتي السابق مثل كازاخستان، وأيضاً من دول أخرى مثل الفلبين وبولندا وألمانيا.

وتابعت السينما نمو هذه الرياضة، ابتداء من عام 1938، وطوال القرن الـ20، وفي ذلك الوقت لم يكن على أي أحد في هوليوود تبرير إنتاج أفلام الملاكمة، نظراً للشعبية الضخمة التي تتمتع بها، والتي وصلت إلى ذروتها بفوز فيلم «روكي» بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم عام 1976. لكن السؤال المهم هو لماذا لازلنا نشاهد أفلام ملاكمة عدة، حتى لو علمنا أن الرياضة فقدت شيئاً من شعبيتها بدخول القرن الـ21؟ وأكثر بدخولنا العقد الثاني منه. لماذا نشاهد أفلام ملاكمة تتبع معادلة واحدة منذ فجر تاريخها، فهي قصة واحدة تكرر نفسها بأساليب ليست دائماً مختلفة؟ فلنحلل الأسباب.

وليست هناك رياضة ناسبت السينما مثل الملاكمة، فهي مزيج بين مباراة ودراما وعواطف جياشة، أيضاً نيات الشخصيات واضحة للغاية، ما يساعد في عملية الارتباط العاطفي مع الجمهور، والبطل والخصم (الأخير شرير في ذهن المشاهد) واضحان، وبالتالي هي أفلام سهلة جداً في المتابعة، وليست بحاجة إلى تركيز.

أفلام الملاكمة عبارة عن رجلين «يتراقصان» على منصة مرتفعة تحت أضواء ساطعة، في البداية يظهران في وضعية مريحة، ثم يخرجان منها ويتبادلان اللكمات. هناك نوعان من الدراما في هذه الأفلام: دراما الحلبة المقسمة إلى أجزاء عدة، تبدأ وتنتهي بقرع جرس، ومدربين يدير كل منهما الجزء المخصص له من المباراة بكلام تحضيري ومحفز يرصد الأخطاء ويصححها، وفي الخلفية نسمع جمهور المشجعين وزئيرهم.

وعلى مدار 12 جولة، يمر الملاكم بطيف كامل من العواطف، كل لكمة يسددها أو يتلقاها تذكره بقصة حدثت في الماضي أو تصلح ماضياً محطماً، فالمعارك أو المباريات تكون لحظة ذروة طبيعية، بعد سيناريو مملوء بالتجارب والمحن، وبعدها نصل إلى لحظة التتويج التي تأتي بأشكال عدة: ضربة قاضية أو حزام أو قبضة يد مرفوعة (إشارة النصر). فبعد كل هذه العناصر الموجودة في مشاهد مباريات الملاكمة لا غرابة في أن هوليوود لا تريد التوقف عن صناعتها.

وكان آخر فيلم ملاكمة شاهدناه في الصالات «بليد فور ذيس»، من بطولة مايلز تيلر عن قصة عودة الملاكم فيني بازيينزا إلى الحلبة، بعد إصابته في حادث سيارة، كاد أن يحطم عموده الفقري، ويصيبه بالشلل. بازيينزا اضطر للخضوع لعملية جراحية لتثبيت رقبته، عن طريق تركيب هالة حديدية حول رأسه، وتثبيتها ببراغٍ في جمجمته.

وقد قال له الأطباء إنه قد لا يمشي مجدداً، لكن هذا بالضبط ما يحتاجه أي فيلم ملاكمة كوقود لتحريك القصة، وإثبات الإرادة الحديدية للبطل، ليشق طريقه مجدداً إلى الخلاص. وفي ذلك الطريق نجد العناصر ذاتها: مونتاج التدريب الإلزامي، عائلة الملاكم تشاهد المباراة في البيت، أم أو زوجة تغطي وجهها وتنسحب إلى غرفة مجاورة، عندما يتلقى البطل لكمات تغير معالم وجهه. نضيف إلى ذلك صوت الطنين، الذي نسمعه عندما يتلقى الملاكم ضربة عنيفة مباشرة في الأنف أو على أذنه، وهنا يدخل المخرج في رأس الملاكم، لنرى كيف ترتبط كل ضربة بحادث أليم أثر في حياته ثم يزأر الملاكم مجدداً، وينتصر وهكذا طعم المجد.

«بليد فور ذيس» هو رابع فيلم ملاكمة يطرح في آخر عامين، بعد «هاندز أوف ستون» الفوضوي عن قصة الملاكم البانامي روبرتو دوران، وفيلم «كريد» العام الماضي الذي يعتبر متفرعاً من سلسلة أفلام «روكي» الشهيرة وقبله «ساوثبو». أما مستقبلاً فهناك المزيد من أفلام الملاكمة مع جيمي فوكس في دور الملاكم الأسطورة مايك تايسون، وجيريمي رينر في دور روكي مارسيانو.

المراقب العادي قد يتصور أن هوليوود تستغل لحظة ثقافية من التاريخ الأميركي، تمكنت فيها الملاكمة من استعادة زخمها في الوسط الرياضي الأميركي، والاستفادة من حاجة المجتمع الملحة لمشاهدة هذا النوع من الترفيه، لاستغلالها سينمائياً لكن الأمر ليس كذلك.

أفلام الملاكمة تشبه إلى حد ما أفلام «حرب النجوم» من ناحية السيناريو، فالمشاهد يعلم تماماً كيف تنتهي هذه الأفلام باتضاح نيات الشخصيات الرئيسة في البداية، وتبقى فقط معرفة كيف سيتم ذلك. من النادر جداً أن نشاهد فيلم ملاكمة ينحرف عن هذا المسار، وهو إعطاء البطل حافزاً لمغادرة منزله أو موطنه من أجل المشاركة في مباراة بطولة، وإعطاؤه دليلاً أو مرشداً وهو المدرب، واختبار قدرة البطل أو مدى تحمله من خلال إصابة أو هزيمة ومشاهدة البطل يستعيد توازنه ويعود إلى رشده بالفوز بالبطولة أو الحب ثم النهاية.

وهذا الكلام لا يعني تبسيطاً لطريق أي ملاكم نحو النجاح، لأن الدرب عموماً يكون متشابكاً وشائكاً وأحياناً مقلوباً (تعرض الشخصية لموقف مهين قد يكون افتتاحية مناسبة لفيلم، خصوصاً لو خاض البطل المغامرة وهزم في النهاية، فيكون هزيمة بطعم الفوز). كل هذه الأفلام يعلم صانعوها أنها مهما كانت سهلة التخمين ولا تحوي مفاجآت، إلا أننا لا نستطيع التقليل من قوتها العاطفية على أي مشاهد، خصوصاً لو تمكن الفيلم من إرساء أساس جيد للقصة.

على سبيل المثال، يبدأ الفيلم من داخل بيئة الملاكم وهي انعكاس مباشر لأسلوب تنشئته وعقليته داخل الحلبة. والملاكمون الذين نهتم بهم في الأفلام غالباً يحملون أعباء طبقتهم الاجتماعية الكادحة، وأحيائهم المنسية، ويمثلون مجموعة من البشر أنهكتهم مشقة الحياة، فوجوههم متأثرة من عوامل الطقس وأيديهم متصلبة. المدن عادة ضيقة والخصوم المحليون ضعاف، فيهاجر الملاكم من مدينته الصغيرة في ماساتشيوستس أو فيلادلفيا إلى لاس فيغاس أو نيويورك للقتال مع خصم أقوى وأكبر.

والمثال الأكثر وضوحاً هو فيلم «روكي»، فالبطل لا يتدرب بأحدث الأجهزة التقنية، لكنه يلكم لحوم أجساد الذبائح في الثلاجات، وبدل الجري في المضمار المخصص يستخدم الشارع والسلالم، ويقفز فوق السكك الحديدية ويدخل وسط الأسواق ويركض خلفه صبيان الحي في شوارع فيلادلفيا.

ففي هذه الحالة تكافئ القصة بطلها بعد كل هذه المشقة، ومثل معظم الملاكمين الذين يبدأون الفيلم مستضعفين، فإن هذا النوع من تكريس النفس للتدريبات الشاقة العملية يخلق رابطاً قوياً بين الملاكم وجمهوره في الفيلم الذي يثق بصلابته أمام الخصم، لأنهم عاشوا معه التجربة.

من ناحية أخرى، فإن الفوز بمباراة ملاكمة يعتبر أكثر من مجرد إنجاز شخصي، فالملاكم يكون نائباً عن شيء أكبر، حي منسي مثلاً أو طبقة مجتمعية بأكملها خلال حقبة كساد اقتصادي، دولة تحارب من أجل الاستقلال حيث يكون النصر بمثابة تحقيق عدالة، ما يعطي أملاً مؤقتاً بالمستقبل.

أو قد يكون السبب حل مشكلة سياسية، كما حدث في فيلم «الملاكم» لجيم شيريديان الذي مثله دانيال داي لويس في دور ملاكم، يوظف مهاراته لتخفيف التوترات الناجمة عن الانقسامات بين البروتستانت والكاثوليك في إنجلترا وإيرلندا. أو شخصياً كما حدث مع كلينت إيستوود في فيلمه «مليون دولار بيبي»، عندما يعوض والد علاقته المفقودة مع ابنته بتدريب فتاة ملاكمة كون معها علاقة أب وابنته.

والفيلم يعكس نوعاً من الفلسفة هو أن رياضة رئيسة كالملاكمة يمكن أن تسهم في خلق علاج لجروح الماضي عن طريق خلق جروح جسدية جراء الرياضة العنيفة. في نهاية الأمر كل هذه الأمثلة تشير إلى أن مباريات الملاكمة في الأفلام ليست مجرد مباريات، بل إن الأمر أعمق من مجرد شخصين يتقاتلان في حلبة.

وهناك أيضاً سبب تاريخي يرتبط بحب مشاهدة الناس للعنف، فمن لا يتوقف في الشارع لمشاهدة شخصين يتقاتلان، الأمر نفسه ينطبق على علاقة أفلام الملاكمة بالسينما، وبعكس كل الرياضات الأخرى فإن مباريات الملاكمة تصمم من قبل خبراء، كما هي الحال مع حركات الرقص. في فيلم «ذا فايتر» اختار المخرج ديفيد أوراسل تصوير مباريات الملاكمة من خلال شبكة «إتش بي أو» التلفازية.

رايان كوغلر ابتكر أسلوباً جديداً مشابهاً لأسلوب المخرج الإنجليزي بول غرينغراس في أفلام «جيسن بورن»، حيث وضع الكاميرا بين مقاتليه، كأنه يراوغهم لتصوير لقطة واحدة لجولة بأكملها مع الدوران حول اللكمات بشكل يحاكي رقصة باليه، ومايكل مان اختار الزوايا المتعددة في «علي» عام 1999 مع ويل سميث مع الحركة البطيئة.

وهناك مشاهد لابد منها لإضافة البهارات كما يقال، وهي الجماليات البشعة لهذا النوع من الأفلام مثل لقطات العرق المتصبب ونزيف الأنف على الفم ثم أرض الحلبة، صوت تحطم الفك، لقطة خروج حامية الأسنان من الفم وطيران اللعاب في خلفية الأضواء الساطعة ولقطات فقدان تركيز عدسة الكاميرا وضبابية المشهد بأكمله عندما يتعرض البطل لضربة قاضية. أو كما رأينا في «بليد فور ذيس» طنين الأذن عندما غطى على زئير الجمهور في الخلفية. وبقدر ما تبدو لقطات مثيرة للقرف والاشمئزاز إلا أنها تعتبر لقطات فنية جداً لا غنى عنها في أفلام الملاكمة، وهي أكثر شيء نتذكره بعد نهاية الفيلم.

أفلام الملاكمة دائماً قوية في شباك التذاكر، ذلك لا يعني أن هناك ضمانات لنجاحها فقد أخفق «علي» و«Play it to the Bone» أو «اللعب حتى الرمق الأخير» من قبل، لكن تاريخ شباك التذاكر غالباً يشهد بنجاحها وهي تكاد تكون الوحيدة كذلك. هذه الأفلام تكون عادة موجهة للجمهور الرجالي لكن في العقود الأخيرة أصبحت لها شعبية بين الرجال والنساء على حد سواء، أكثر من بقية الأفلام التي تتخذ من الرياضات موضوعاً لها. في أول إجازة نهاية أسبوع منذ بدء عروض فيلم «ساوثبو» شكلت النساء 43% من جمهور الفيلم، أقل من نصفهن كن من البيض، و24% من أصول إسبانية، و21% من أصول إفريقية.

الشباب من الجمهور يذهب لمشاهدة لقطات القتال، بينما يستجيب الكبار أكثر لمشاهد الدراما العائلية، خصوصاً لو كانت دراما قابلة للاشتعال، كما يحدث عادة في أفلام الملاكمة المقتبسة من قصص حقيقية، أو يذهبون لمشاهدة قصة الملاكم المستضعف، وهذا أفضل ما في هذه الأفلام أنها تحوي طبقات عدة من القصص المثيرة للاهتمام، لو أحسن صناع الفيلم استكشافها جيداً.

المصدر: الإمارات اليوم