عبدالسلام الوايل
عبدالسلام الوايل
كاتب و أكاديمي سعودي

محمد أحمد الرشيد: زمن التغريب .. زمن المغفرة

آراء

مات محمد أحمد الرشيد فقرأنا الثناء العاطر على الرجل وسيرته المحمودة إنساناً و مسؤولاً وتربوياً ذا رؤية وبصيرة، وإخلاصا في العمل وعفة في اللسان. مات محمد أحمد الرشيد فظهرت فجأة صورة ملائكية للرجل الذي وصف يوماً بأنه رأس حربة التغريب ومنفذ المؤامرات على الأمة و ثوابتها. مات محمد أحمد الرشيد فشهدت جنازته على قيمته وسط مجتمع ثمّن له خدماته بمشاعر صامتة لكنه لم يجرؤ على إنصافه من شانئيه. أليس هذا هو نفسه محمد أحمد الرشيد الذي قال فيه أهل الغيرة على الدين والأعراض أنه «لا تبرأ به الذمة». كان محمد أحمد الرشيد وزير التربية و التعليم، كان اسمها «وزارة المعارف» وقتها، إبان دمج رئاسة تعليم البنات بالوزارة. ولذا، فإن معارضي الدمج خاصموا الرجل ففجروا في خصومتهم، كما هي العادة، دعوني أوثق، حتى لا أتهم برمي القول جزافاً.
خطب محمد الهبدان بعيد قرار الدمج خطبة سماها «شهيدة العصر» والموصوف بالشهيدة هي رئاسة تعليم البنات. أبكى الشيخ محمد الهبدان المصلين الخائفين على أعراضهم و بناتهم من أمر يدبر لهن بليل وتهدج صوته وهو يستشهد ببيتَي الشعر:
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
و وصف الدمج بأنه مؤامرة من «بني علمان لا كثر الله لهم جمعاً ولا حيا لهم ضارعا. بنو علمان كم جروا على البلاد و العباد من الويلات والنكبات، كم جلبوا من المخازي و المحرمات، كم دنسوا المحارم وارتكبوا الجرائم، كم كذبوا و افتروا وهولوا على الولاة. هم الأفاكون الخراصون الكذابون المفترون قاتلهم الله أنى يؤفكون» ثم يمضي الهبدان في تصوير واقع غريب يظهر فيه وكأن وزارة التربية معقل لكل شر ومحضن للتغريب، وهو المصطلح الذي يشبه الكائن الخرافي المخيف، لكن الفعال، «السعلو». وتأتي قمة التراجيديا حين يصف الهبدان قرار الدمج بأنه أحال صلاحيات الرئاسة لـ«أناس لا تبرأ بهم ذمة». ومحمد الرشيد طبعاً على رأس هؤلاء الذين لا تبرأ بهم ذمة، فصلاحيات الرئاسة أحيلت إليه. وربما كانت عدالة ربانية أن الهبدان تحدث في ذات الخطبة عن تقرير سري أعده تربويون فاضل تعليم البنات، تحت إشراف الرئاسة، على تعليم البنين، تحت إشراف وزارة المعارف متهماً رأساً في الوزارة بمنع تسرب التقرير، ثم خاتماً هذه الفقرة من الخطبة بالدعاء «أسأل الله تعالى أن يحول بينه وبين الصحة والراحة والنعيم والسعادة حتى يموت على شر حالة». لست أدري عن نية الهبدان ومن كان يقصد بهذا الدعاء تحديداً، لكن إن كان مقصده محمد الرشيد فمن الغريب أن الرشيد توفي وهو يصلي في المسجد وكانت آخر تغريداته في حسابه بالتويتر قبل موته بست ساعات بالنص التالي: «يالحماقة بعض الموسرين، يقتر على نفسه في الدنيا ليثري وريثه من بعده ولو أنه سأل وريثه يوم القيامة حسنة واحدة لرفض الوريث طلبه». زيادة على ما ورد في هذه الخطبة، أطلقت في تلك الفترة الكئيبة على الرجل أوصاف الأراذل والحيوانات المكروهة والمحرمة وألصقت به تهم التآمر على المجتمع لتغريبه والدين لهدمه.
العجيب أن الرشيد الذي جُرح كبرياؤه أن يشتم من على المنبر في خطبة جمعة يلزم فيها المصلون بألا ينشغلوا عن الخطيب بشيء، قرر ألا ينتقم لشخصه. يقول الرشيد، في مقابلة له في جريدة المدينة (بتاريخ 2010/3/15)، عن هذه الأجواء وعن عدم مقاضاته لمن هاجموه: «رأيت أن مهمتي أن أحاول ترسيخ معاني التربية الجميلة وتوجهاتها الطيبة وليس أن أدخل في محاكم وصراعات، فالله سبحانه وتعالى سوف يحكم بيننا جميعًا. تركت الأمر لله تعالى… من المآسي أنه في يومٍ من الأيام كنت مع كبار موظفي الوزارة نفكر في أمرٍ معيّن وكان ذلك يوم الخميس الذي هو إجازة رسمية فاتصلت بي وزارة الإعلام وقالوا لي: إن مندوبي وكالة الأسوشييتد برس يريدون إجراء مقابلة معي فوافقت. طرحوا علي سؤالاً هو : إن قرآنكم ومناهجكم يحثان صغار السن والناشئة على كره الغرب والغربيين ومحاربتهم فقلت لهم هذا ليس صحيحًا وأخذت ترجمة لمعاني القرآن التي تقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) شرحت لهم هذه الآية وترجمة معانيها. في يوم من الأيام وجدت صورتي وأنا أرفع المصحف وتحتها مكتوب: محمد الرشيد يقول لا نريد تحفيظ القرآن! كيف يصل الظلم إلى هذا الحد. لحسن الحظ كان من الحاضرين لتلك المقابلة خضر القرشي ومحمد الصائغ. طلبت منهم أن يشهدوا أمام الله بأنني لم أقل ذلك». وفي مقابلة له مع تركي الدخيل في قناة العربية يتحدث بحسرة قائلاً: «حينما تتهم أي إنسان بأنه لا تبرأ به الذمة ولا يؤتمن على عرض، هذا يا أخ تركي يعني أصابني في الأعماق، شيء يعني مهو سهل مهو سهل أن توصل به هذا الوصف. ولو كان لا قدر الله صحيحاً فكان الأولى ألا أكون مسؤولاً عن البنين، كيف نوكل تعليم البنين 8 سنوات إلى أي مسؤول لا تبرأ به الذمة ولا يؤتمن على عرض».
هذا الرجل هو نفسه الذي أخرج الله فضائله بعد قبض روحه، فسالت الأحبار، و مازالت حتى كتابة هذا المقال، في الصحف تتحدث بإيجابية وخيرية عن الرجل و فضله وعلمه وإخلاصه. والذين يؤبنون الرجل دعاة ومصلحون ورجال تربية وتعليم وفكر وعلم، بعضهم من رموز التيار الإسلامي. لعمري، أين كانوا قبل إحدى عشرة سنة؟ هل صرامة التصنيف وحدة الخطاب وفجور الخصومة أخافتهم فآثروا السلامة حتى لا يتهموا بالعلمنة والتآمر على الدين وثوابته؟ أم خافوا أن يتهموا بالتخذيل إن هم انتقدوا ذاك الاغتيال المعنوي للرجل الذي جرى على مدى أشهر من على منابر المساجد وفي المنتديات؟!
الخطاب الذي استخدم لوصف محمد الرشيد سنة 2002 و نقيضه سنة 2013 يصلح مثالاً على ظاهرة طالما عانيناها، تتمثل في «الفجور في الخصومة». إن كَره المتشددون أراءك ومسلكك فلا كرامة ولا حق لك، ليس الرشيد وحده. ما الذي قيل في غازي القصيبي سنة 1410، حين تعارك مع بعض رموز الصحوة في تلك الأيام؟ و أيضاً، ما الذي قيل فيه قبيل مماته جراء خططه لتوسيع مجالات عمل المرأة؟ لعلنا نتذكر أن أحد المحتسبين لم يستح بالتصريح أنه دعا، بل أخذ يدعو عند الملتزم شهراً كاملاً بأن يميت الله القصيبي بالسرطان وألا يقبل له توبة! ليس التنفيذيون وحدهم هم المستهدفون إنما الشعراء والفنانون وناشطو المجتمع أيضاً. خطيب جمعة في مسجد بجدة تلا من على المنبر مقطعاً شعرياً للثبيتي «يأبى دمي أن يستريح» وعقب قائلاً: «سيريحه السيف إن شاء الله». و لقد نال الزيد والصيخان والحربي شيئاً من هذا الفجور. المطالبات بقيادة المرأة في نوفمبر 1990 قذفن من على المنابر. و إن كان ذلك حدث في التسعينيات الميلادية، فإنه ظل يتكرر مع كل حادثة. قبل بضعة أسابيع فقط تكرر نفس الأمر ونفس الخطاب والأوصاف والتحريض للمطالبين والمطالبات بقيادة المرأة السيارة. مناخ التحريض ليس مقصوراً على المتشددين وحدهم، فهو مناخ ثقافي عام، ولقد كتبت عنه مرة في هذه الجريدة مقالاً بعنوان «مناخات التحريض». لكن يتسم الخطاب الديني بالذهاب بعيداً في الخصومة الفاجرة وأيضاً باستخدام الشعائر الدينية، كخطبة الجمعة، لتسويق هذا الفجور.
كتب شتيوي الغيثي قبل أسابيع قليلة مقالاً بعنوان «يا مشايخ التسعينيات اعتذروا». في ظني أن ذلك بعيد، فعفواً عن أن الخطاب نفسه ليس من سماته انتقاد نفسه وتصحيح أخطائه، فإنه، أي ذلك الخطاب، يُنتج في بيئة حاضنة ترى في الداعية مصدراً للأحكام الدقيقة والصائبة والعادلة وتتوجس من معارضي ذلك الخطاب ورافضيه. لا أدل على ذلك من أن الذين لم تتوقف شلالات أخبارهم في تمجيد الرشيد طوال الأسبوع الماضي، خاصة مشايخ الصحوة قد التزموا الصمت إبان الحملة الضارية ضد رجل كانوا يدركون يقيناً أنه لم يكن كما كانت خطب الجمع تصوره للمصلين المنشدين لمنطق المنبر.

المصدر: صحيفة الشرق