علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

وغاب العابد عن المحراب

آراء

لا أحب مقالات الرثاء، فهي تعني أن كاتبها فقد عزيزاً، لكن فقد إنسان بقامة الراحل إبراهيم العابد، عليه رحمة الله، وبمكانته في قلبي وقلوب كل الذين عرفوه مثلي عن قرب، لا يمكن أن يمر دون طرق هذا الباب، وإن كنت لن أفي العابد حقه.

كان الزمان نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، عام 1980 على وجه التحديد، وكنت وقتها حديث التخرج في الجامعة، أتطلع لاستثمار ما درسته وما مارسته من عمل في مجال الإعلام، عندما كنت طالباً على مقاعد الدراسة الثانوية، وتسخيره لخدمة وطني الذي كان يستعد لدخول العشرية الثانية بعد تأسيس الدولة. تقدمت بأوراقي إلى دائرة الخدمة المدنية، التي كانت مسؤولة عن توظيف المواطنين وقتها، فجرى تعييني في وزارة الإعلام والثقافة. كانت رغبتي هي العمل في وكالة أنباء الإمارات، التي كانت قد تأسست حديثاً، لكن إدارة شؤون الموظفين في الوزارة ألحقتني بالتلفزيون، الذي كان هو والإذاعة تخصصي الأكاديمي، ومجال خبرتي القصيرة آنذاك. التحقت بالعمل في تلفزيون الإمارات العربية من أبوظبي، رئيساً لقسم الأخبار لأجد أن ما يفصل بين مبنى التلفزيون ووكالة أنباء الإمارات جدار فقط، حيث يتجاور المبنيان، ويتصل عملهما بشكل مباشر في مجال الأخبار المحلية الرسمية، التي كان مصدرها الوحيد هو وكالة الأنباء التي كان إبراهيم العابد يتولى وقتها إدارتها بالوكالة.

منذ ذلك التاريخ، قبل أربعين عاماً، عرفت إبراهيم العابد، عليه رحمة الله، مديراً غير تقليدي، تعلمت من طريقة إدارته أن الإدارة هي فن التعامل مع الموظفين بطريقة تجعلهم يعشقون عملهم، ويبدعون فيه، ويخلصون له، ويتفانون في تأديتهم لواجباتهم. كان، عليه رحمة الله، يخجل من أمامه بتواضعه الجمّ، يكتب الخبر إذا لم يكن هناك من يحرره، ويتابع كل صغيرة وكبيرة بنفسه. كان شعلة من نشاط، يتدفق حيوية، يعمل على مدار ساعات اليوم، طوال أيام الأسبوع السبعة، دون كلل أو ملل أو ركون إلى الراحة، تجده حاضراً في كل وقت، يرد على كل اتصال يأتيه في أي وقت من الليل أو النهار، مستعداً لتقديم العون أيّاً كان نوعه.

تقلّد، عليه رحمة الله، مناصب قيادية عديدة. وخلال مسيرته الوظيفية تلك، ظل كما هو، إبراهيم العابد الذي عرفته قبل أربعين عاماً، متواضعاً، مخلصاً لمهنة الإعلام التي عشقها حتى أصبحت لا تنفصل عنه. كان صديقاً لجميع الإعلاميين داخل دولة الإمارات وخارجها، متابعاً وموجهاً ومرشداً للشباب، يبادر إلى الاتصال بالمبدعين منهم عندما يرى عملاً يستحق الإشادة والتشجيع، وكثيراً ما اتصل بي يشكرني على مقال كتبته، أو عمل إعلامي أنجزته. ولكل هذه الصفات والسجايا، استحق إبراهيم العابد، عليه رحمة الله، التكريم من قبل قادة دولة الإمارات، فكرمه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بتسليمه جائزة شخصية العام الإعلامية في حفل توزيع جائزة الصحافة العربية عام 2014، تقديراً لعطائه في خدمة إعلام دولة الإمارات والإعلام العربي بشكل عام.

كمـا كرمــه صــاحــب السمـو الشيــــخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عام 2018، بتسليمه «جائزة أبوظبي» التي تمنح للذين أسهموا بتفانيهم والتزامهم العالي في خدمة أبوظبي، لتكون أعمالهم مصدر إلهام يشجع الآخرين على القيام بأعمال نافعة تخدم المجتمع. وقد كان إبراهيم العابد، عليه رحمة الله، بحق واحداً من هؤلاء الذين يستحقون التكريم.

رأيت علامات الحزن تكسو وجهه بعد أن أصيبت رفيقة دربه، المربية الفاضلة السيدة نظمية العابد، بمرض جعلها تلازم الفراش قبل سنوات. قال لي إنه لم يعرف طوال حياته سوى العمل، وإن «أم باسم»، شفاها الله، كانت تتولى شؤون الحياة الأخرى كلها وتديرها بعيداً عنه كي يتفرغ هو للعمل فقط. لقد شكل «أبو باسم»، عليه رحمة الله، بشخصيته الودودة القريبة من القلب، وبإخلاصه وتفانيه في خدمة الإعلام، نموذجاً للإعلامي العاشق لمهنته، المخلص لها، حتى رحل عن دنيانا دون أن يتخلى عن الشغف بهذه المهنة.

غاب العابد عن محراب الإعلام الذي ظل ناسكاً فيه قرابة نصف قرن، لكنه لم يغب عن قلوبنا التي سيبقى مقيماً فيها. لقد فقد الإعلام الإماراتي والعربي، بمغادرة العابد محرابه، ركناً مهماً من أركانه وأيقوناته الفريدة التي لا تتكرر كثيراً.

المصدر: البيان