مصطفى النعمان
مصطفى النعمان
كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد

التطرف من المشرق إلى المغرب

آراء

لا شك أن المتابع لأحوال المنطقة العربية سيصاب بالهلع عند النظر إلى خط الرعب والإرهاب الذي يمتد من مشرق العالم العربي إلى مغربه، ولا بد أن صور الضحايا الذين يتساقطون في كل زاوية ستجعل مشاعر غموض المستقبل وقتامته تتراءى أمام عيون الجميع وهم عاجزون عن مواجهة هذا الكم المخيف من الرغبة في سفك الدماء واستلاب أرواح الناس تحت راية الإسلام التي يعبث بها الجهلة، ويصمت عن إدانتهم أساتذتهم وفقهاؤهم الذين زرعوا في جماجم الشباب أن الطريق إلى الجنة سينقطع عنهم ما لم يخضبوا أيديهم بالدماء الزكية ويثيروا الرعب في نفوس الناس.

الأسئلة كثيرة لكن أكثرها إحباطا: ما الذي يدفع هؤلاء الشباب للالتحاق بصفوف الإرهابيين؟ من الذي فسر لهم نصوص القرآن وأحاديث سيد الخلق محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)؟ من الذي موّل ومن الذي برر ومن الذي مجّد هذه الأفعال الشيطانية؟ أليس من المخجل أن نتصور أننا أمة بلا خطايا وبلا مجرمين؟ هل يمكن أن نتصور بسذاجة أن الحل هو عقاب من يخرج عن طاعة ولي الأمر فتُسلب هويته وكأننا نمنح القداسة وكمال النزاهة إلى المواطنين الذين يرضى عنهم الحاكم، ومن اعترض أو اختلف أو خالف فمارق يستحق العقاب؟!.. هل نحن أمة لا تتعصب لرأي ولا تكفر مخالفا ولا تنبذ عاصيا؟.. أين منا صفات التسامح والترفع والابتعاد عن الغلو والتطرف؟

قبل أيام رأينا جنودا في حضرموت يذبحون كالنعاج، وترسل صورهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وينعى اليمنيون إخوة لهم لم يرتكبوا معصية في حق الخالق ولا جرما في حق الوطن، وتبكي أسرهم حظها العاثر الذي أجبر أبناءها على الالتحاق بصفوف الجيش تأمينا للقمة عيش واعتقادا أنهم يخدمون الوطن!.. من السخرية أن توقيت العملية البشعة تزامن مع حضور مسؤولين حكوميين حفل زفاف أقامه ثري عربي في عاصمة أوروبية: أليس في حضور هؤلاء احتقار لهذه الدماء الزكية؟ ألم يكن من الواجب إعلان حداد رسمي على أرواح هؤلاء النبلاء؟.. قبل هؤلاء قُتل المئات، وتيتم أطفال، ولم نسمع أكثر من بيانات «الضرب بيد من حديد» و«أن الجريمة لن تمر دون عقاب».. وبعدها يعود الجميع للانشغال بما لا يفيد وتتكرر صور المفاوضات والمقايضات على المواقع والمغانم.

ما من بلد عربي يجوز له الاعتقاد أنه في منأى عن هذه المشاهد البائسة والمرعبة، والمذلة أيضا.. مذلة لأن الحكومة التي لا تهتم بقتلاها ولا تثأر لهم ولا تنتصر لكرامتهم (وكرامتها جزء منها) لا يجوز أن تنتظر من المواطنين أن يحترموها أو يذعنوا لقراراتها أو أن يتابعوا أكاذيبها!

لكن أين تكون البداية لمحاربة الفكر الشاذ الذي ينتج عنه هذا السيل الجارف من الشباب الذين يلتحقون كل يوم بصفوف «دولة الخلافة»؟ كيف ترك الطبيب والمهندس والباحث مهنهم ورموا خلف ظهورهم سنوات من الدراسة والخبرة كل في مجاله؟ لماذا فضل هؤلاء وغيرهم هجر أسرهم وبلدانهم وفضلوا عليها الانتحار وقتل أنفس بريئة؟

قد يكون من غير المفيد الآن توجيه أصابع الاتهام إلى جهات بعينها، وليس مجديا التنصل من المسؤولية، ولكن من الضروري والمُلح إعادة قراءة المشهد بطريقة سينمائية لنتمكن من تركيب اللوحة المجسمة لما يدور. الخطوة الأولى هي البدء في إنتاج كتاب مدرسي يضع حدا فاصلا بين «ما لله وما للقيصر»، لأن زوال هذا الخلط أفرز في الماضي هذه المظاهر الشاذة التي عبثت بالفكر وأثقلت كاهل الحاكم والمحكوم، ويجب أن يتوجه التركيز نحو أن الإسلام ليس في خطر وليس بحاجة لمن يدعي أنه يحميه من أعداء تم اختراعهم لإيجاد وظيفة يتولى أمرها من يفرضون أنفسهم حماة له، ومن الواضح أنهم يصرون على أن صحيح الدين لن يستقيم إلا بالعودة إلى عهد الخلافة الراشدة والتمسك بما كانت تدار به أمور المسلمين قبل 14 قرنا!.. هنا يجب أن يستشعر القائمون على الأمر أن الإسلام ليس مجرد شعائر تؤدى، وإنما نهج حياة منح الإنسان كل الحريات التي بلغت مداها بحرية المعتقد «لكم دينكم ولي دين»، وهو نص لا يحتاج إلى تأويل ولا تفسير ولا حذاقة لفهم مقصده، والذين يقولون بغير هذا هم من زرعوا الأفكار الضالة التي أخلت بالفكر الإسلامي ونهجه الصائب.

خلال العقود الخمسة الماضية دخلت بعض الأجهزة الأمنية سوق العبث والمزايدة، وعملت على خلق تجمعات، بل وصنعت علماء يدينون لها بالولاء ويعمدون إلى خلق المبررات لتصرفاتها وأعمالها، ولم يكن الأمر عسيرا لما تمتلكه من وسائل الإغراء والإغواء والترهيب، والتاريخ الإسلامي به قصص كثيرة لأمثال هؤلاء، لكن هذه الأساليب لا يدوم مفعولها لفترات طويلة، إذ سرعان ما تخرج من تحت عباءات هذه الجماعات فرق أكثر تطرفا وأقل ارتباطا بالأجهزة، وتتحول سريعا إلى اتخاذ أساليب أكثر قسوة ودموية جاذبة لأفراد يعيشون واقعا لا يرتبط بالعصر فكرا وزمنا. كانت صورتا الطبيب الجراح الذي يحمل سكينا في يده والطفل الذي يرفع رأس إنسان شاهدتين على الانحطاط الفكري الذي وصل إليه العالم العربي، والإفلاس الثقافي والانهيار التعليمي، وليس منطقيا ولا مفيدا نفي وجود مثل هذه النوعيات في المجتمع والركون إلى أن إنكار وجودها هو الحل.

إن المواجهة والصراحة وتوقف الزيف والنفاق وإطلاق الحريات الثقافية والتعليمية هي الأسلحة التي تستطيع مواجهة كل فكر شاذ، وهي قادرة على كبح جماح الرياء الذي صار صفة ملازمة للذين خلطوا بين الدين والسياسة فأفسدوا الاثنين، وصارت الحصيلة بشعة ومفزعة، واختلط الأمر وانغمس رجال الدين في الشأن السياسي، وفتحت أمامهم وسائل الانتشار والمال والسيطرة على حركة المجتمعات العربية حتى بلغوا حد الإعلان عن الاختراعات العلمية وتأسيس الجامعات والمعاهد، وتم كل ذلك إما بتواطؤ أو لدرء تدخلهم في شأن الحكم.. وإذا كان ذلك ممكنا في البدايات فإن النهايات تجري على غير ما تهوى الأجهزة، وهكذا توالدت هذه الجماعات وتكاثرت حتى صار من الصعب متابعتها والسيطرة عليها، ونمت أجساد غريبة داخلها ازدادت انحرافا ولم تعد تحت إمرة الجيل القديم من الذين تعرفهم الأجهزة الأمنية، التي فوجئت كما نحن بقيادات تعتمد العنف والقسر والجمود شعارات للمرحلة، وتراءى لها أن العودة إلى عصور الخلافة سبيلها لتحقيق طموحاتها المشوهة وفرض إرادتها على الجميع، وصارت قواعد الحكم في المناطق التي بسطت نفوذها عليها معزولة عن العصر والزمن.

هذا الحال لا يمكن لدولة بمفردها أن تسيطر على منتجه، ولا أن تعيد الصواب إلى مجراه.

المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?&article=783609