مصطفى النعمان
مصطفى النعمان
كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد

الحوار الوطني في اليمن: مدخل لحل أم مدخل لأزمة؟

آراء

يزداد المشهد السياسي اليمني غموضا مع اقتراب بدء أعمال الجلسة العامة النهائية لجلسات الحوار الوطني التي ستستمر لشهر كامل يبدأ في 18 أغسطس (آب) الحالي، ويُفترض أن تُناقش فيه التقارير التي توصلت إليها فرق العمل التسع.. ولا بأس من إعادة التذكير بأن كل التقارير التي ستجري قراءتها أولا، بعد استنزاف وقت استمر لستة أشهر ومزايا مالية مجزية لكل المشاركين في عمل يفترض أن يكون تطوعيا في المقام الأول، ستكون غير مجدية، قبل حسم مآل القضية الجنوبية.

قبيل انطلاق جلسات «موفنبيك»، طالبت الشخصيات الجنوبية المشاركة، بالعمل على تنفيذ إجراءات عملية في محاولة لتهدئة النفوس وتخفيف حالة الحنق المتزايد في الجنوب، وجرى تلخيصها في 20 نقطة، وحصلت على وعود تلو الوعود وذهبت كلها هباء منثورا.. ولا أستطيع تفكيك لغز هذه السلبية التي أوصلت الجميع إلى هذا المأزق، وصمت من يُفترض فيهم القدرة على التأثير، وأدت المماطلة إلى دفع شخصيات مشاركة لرفع سقف مطالبها إلى الحد الذي سيجعل من العسير عليها التراجع بعد أن صار مطلبا شعبيا في كل المناطق الجنوبية.. ولا يكفي الحديث عبر المنابر الإعلامية عن إحالة القضايا المطلوب حسمها إلى جهات لا تملك حولا ولا قوة.

بحت الأصوات المنادية لاتخاذ الكثير من الخطوات بعيدا عن عمل اللجان التي يعلم الجميع أنها مقبرة لكل إرادة مهما بلغ حسن نواياها، وتكرر الحديث العلني وفي المجالس المغلقة عن أهمية سرعة الإنجاز، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وزاد الحنق مترافقا مع إحباط ارتفعت درجاته.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عجزت الأجهزة الفنية في إنجاز مشروع واحد للكهرباء في مدن الجنوب التي اكتوت بحرارة الصيف لسنوات، ولم تتوقف الوعود عن إيجاد حل لهذه المحنة التي لا يستغرق حلها أكثر من أسابيع قليلة، لكن الأمر استمر لما يقارب العامين، وهذا مثال بسيط لإظهار مدى البطء وعدم الاكتراث لمعاناة المواطنين، مما ولد ضيقا في النفوس إزاء عدم المبالاة الذي رأوه متعمدا.

يوم الأربعاء أصدر أحد فصائل الحراك الجنوبي بيانا أعرب فيه عن استيائه لعدم تنفيذ أي من النقاط الـ20 التي أضيفت إليها 11، وزاد بأن طالب بتحويل «الحوار» إلى «تفاوض» بين «الشمال» و«الجنوب»، وعلى أن يكون خارج اليمن، وأشار إلى المماطلة في إعلان اعتذار رسمي عن حرب صيف 94 الكارثية، التي فرض فيها المنتصرون أسلوب حكم يتنافى مع مبدأ المواطنة المتساوية، بل زاد أن استهان بكل النداءات بل والتوسلات لمعالجة المشاكل التي نتجت عن تلك المأساة التي يدفع اليمن شمالا وجنوبا ثمنها الباهظ.

من المنطقي والمطلوب أن تبدأ أعمال جادة بعيدا عن ردهات «موفنبيك»، والابتعاد عن الدوران في حلقات مفرغة، والتركيز على الحلول التي تُرضي الجنوبيين أولا، مع بذل الجهد الصادق لشرح البدائل المختلفة المرتكزة أولا على رغبة أبناء الجنوب.

لقد ظل المتحكمون في قرار «المركز المقدس» بصنعاء يرفضون أي حديث عن قيام دولة اتحادية، واستمروا في المراوغة والالتفاف على المطالبات بتخفيف القبضة على أنفاس الناس في مناطق البلاد، ولما كان أغلب المعترضين على قيامها موجودين الآن في دائرة صنع القرار، فليس من المعقول توقع قبولهم بأي حديث عنها إلا من باب المزايدات السياسية التي أثقلت كاهل البلاد.

قد يغيب عن الذهن أن الواقع المعيش في الجنوب قد تبدل، وصار المزاج السائد هو «الانفصال» أو ما يسميه البعض من قادة الجنوب «استعادة الدولة»، وهكذا فإن الحلول المتاحة يجب ألا ترتبط بالأمنيات والأحاديث العاطفية وإطلاق الشعارات القديمة، وعلى الذين يمتلكون قولا وفعلا مفاتيح الحل إدراك أنه ليس بمقدور أحد الاعتقاد بإمكانية اللجوء إلى القوة أو تكميم الأفواه لإنجاز مشروعه، بل من الحكمة التفكير بهدوء والسعي إلى استشراف الممكن لا المؤمل.

في ظل وضع يمكن وصفه مجازا بأنه «غير مريح»، يظن الكثيرون بأن الحلول الجاهزة والقادمة من الأوصياء الخارجيين ستمر كيفما كانت عبر بوابة «موفنبيك»، ويتناسى هؤلاء أن أي قرار خارجي يحتاج إلى أدوات محلية لإنجازه وتثبيته في الأرض، ذلك أن الحلول التي لا ترضي الناس لا يمكن اعتبارها إنجازا، إلا عبر وسائل الإعلام، ومن الواجب عدم تكرار النهج الذي مارسه المستشارون لعقود طويلة بإحالة كل ملفات الوطن إلى جهة واحدة، والحديث بما يناسب توجهاتها أو انتظار مرئياتها من دون التجرؤ على إبداء النصح أو المشورة هروبا من تحمل المسؤولية وتوخيا للسلامة والاستمتاع بدفء القرب من القمة.

إن تعمد التهوين من الواقع، باستمرار الأساليب العتيقة في الوعود والعهود، والاعتماد على الصراخ عبر وسائل الإعلام، والاستخفاف بالمصاعب، وإطلاق التصريحات التي لم تعد قادرة على إقناع الناس بغير حقيقة الأوضاع.. إن كل هذا هو استنساخ للماضي بصورة أكثر سوءا، ودعوة صريحة لأصحاب المشاريع الصغيرة في الجنوب كما في الشمال إلى الاعتماد على قوتهم الذاتية بعيدا عن قنوات التواصل والحوار والتفاوض.

المطلوب هو الخروج من وهم أن قاعات «موفنبيك» هي التي سترسم مستقبل اليمن، فغالبية اليمنيين قد أصابهم الملل من المشاهد المكررة والجمل المنمقة وإحصائيات الإنجاز الوهمية، وصاروا لا يثقون بكل ما يدور هناك، ومن هنا يأتي دور الذين يمسكون حقا بمقاليد الأمور، بأن يتخلوا عن أعباء الماضي ورواسبه وأوزاره، وأن يدركوا أن الإعصار الذي يهدد اليمن لا يمكن مواجهته بالتعامل المستخف، والضعف والتخاذل، وستتم التهيئة للمزيد من انتشار العناصر الإرهابية في كل ركن من أجزاء اليمن جنوبا وشمالا.

اليمن في سباق مع الزمن، وما يجري لا يسهم في تعزيز تفاؤل مبني على الوقائع لا التمنيات، وكل تأخير في حسم النقاط الـ31 سيرسخ واقعا سيكون من الصعب تغييره، وهو ما نشاهد معالمه في تحول القوى التي كان يرى فيها اليمنيون اعتدالا إلى التشدد والانزلاق نحو صفوف المطالبين بالانفصال الكامل، وصار من غير الغريب أن كثيرين ممن أسهموا في خلق المشاكل والاحتقانات في الجنوب يتقدمون صفوف المنادين بحلول عاجلة لما اقترفوه، متبرئين من كل سوء، ولابسين ثياب النسك والطهارة.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط