برنارد لويس: التفكير في الشرق الأوسط وفق مفاهيمنا الغربية يؤدي إلى كوارث

مقابلات

حوار: عادل الطريفي

برنارد لويس، الأستاذ المتقاعد لدراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون الشهيرة في الولايات المتحدة، والأستاذ السابق في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، والمؤرخ المثير للجدل في العالم العربي منذ الستينات، هو من جيل الأكاديميين الذين درسوا العالمين العربي والإسلامي، وألف كثيرا من الكتب التي لقيت حفاوة وأصداء نقدية كبيرة، بالإضافة لكونها أكثر الكتب مبيعاً، إلا أن عدد الكتب التي ترجمت إلى العربية لهذا المؤرخ، لا تعدو أصابع اليد الواحدة، إذ ظل شبه مجهول إلا من ترجمات يسيرة. فقد ارتبط اسم لويس سلبيا بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وموقفه من حرب العراق 2003، إذ قدم استشاراته للبيت الأبيض انذاك والتي عدّها البعض تحريضا على الغزو، إلا أن لويس ينفي كلتا التهمتين. من بين أشهر مؤلفات لويس كتابان تصدرا كلا في حينه قائمة «نيويورك تايمز» هما: «ما الذي حدث خطأ؟» What Went Wrong و«أزمة الإسلام» Crisis of Islam. أما كتابه «الشرق الأوسط: ملخص مختصر للألفي سنة الأخيرة» فقد تصدر قائمة «فورن أفيرز» الأميركية لأكثر من عام، وكان الأول في التقدير النهائي لدائرة النقاد الذين درسوا هذا الكتاب. ولكن يبقى كتاباه «انبثاق تركيا الحديثة» و«الحشاشون» أبرز عملين لدى تلاميذه وخصومه في آن واحد.

وعلى مستوى العالم، اعترف بلويس منذ عهد غير قصير، كأهم مؤرخ للشرق الأوسط. وهو حاصل على خمس عشرة دكتوراه شرفية، وترجمت كتبه إلى أكثر من عشرين لغة. أما أحدث أعماله فهو «ملاحظات على قرن: تأملات مؤرخ للشرق الأوسط»، Notes on A century: Reflections of a Middle East Historian وفي نظرة شاملة إلى منطقة الشرق الأوسط، يطرح برنارد لويس مع الدكتور عادل الطريفي، رئيس تحرير «الشرق الأوسط» في حوار أجري في فيلادلفيا بالولايات المتحدة أفكاراً حول مستقبل المنطقة بعد ظاهرة «الربيع العربي»، مازجا بين حكاياته وأحكامه الشخصية وتحليلاته التاريخية. وهو في ذلك يعرض فهماً عميقاً لمنطقة كرّس حياته لدراستها، واكتساب الخبرة في شؤونها. وكباحث أكاديمي مرموق في ما يختص بالغرب وعلاقته بالإسلام، يطرح لويس أفكارا حول كيف يجب للغرب أن يقيم علاقات مع المنطقة، لكي يتجنب الفرص الضائعة ومتاعب الحقب السابقة. وهو في هذا السياق يركز بعناية على أزمات المنطقة، ويرى أن الإجابات عنها لا تتوافر في الغرب، بل هي موجودة في قلب المنطقة نفسها. وفي ما يلي نص الحوار:

* ما هي تنبؤاتك للعالم العربي بعد «الربيع العربي»؟

– لا أعتقد أنه يجوز أن ينتظر من المؤرخ أن يتنبأ بالمستقبل بقدر من المعقولية، ولكن هناك أمورا معينة يستطيع المؤرخ فعلها، ويجب عليه أن يفعلها؛ فهو يستطيع إدراك الاتجاهات، وبمقدوره أن يرى ماذا كان يحدث وماذا يحدث الآن، وبذلك يلحظ التغيرات والتطور، ومن ذلك يتيّسر له أن «يصوغ»، ولا أقول يتنبأ بالسيناريوهات الممكن حدوثها والأشياء التي يمكن أن تمضي في هذا الاتجاه أو ذاك… بالطبع سيكون من السهل دائما التنبؤ بالمستقبل البعيد ولكن ليس المستقبل القريب.

* ما هي إذن الاحتمالات التي ترى أنه من الممكن أن تنبعث من «الربيع العربي»؟

– إلى حد ما أنا متفائل بما يجري. تطور الديمقراطية عمل بطيء وصعب. لا بد أن نكون صبورين ونعطي الديمقراطية الناشئة الفرصة لكي تنمو. في الغرب نعطي أهمية كبرى للانتخابات، معتبرين أن الالتزام بالانتخابات هو أنقى تعبير عن الديمقراطية.. ذروة العملية الديمقراطية.

حسنا.. هذا قد يكون صحيحا إلى حد بعيد، ولكن خطوات الوصول إليها قد تكون طويلة وصعبة. الجماهير العربية بالتأكيد تريد التغيير وتريد تحسن أحوالها، ولكن ماذا تعني الديمقراطية في إطار مفاهيم الشرق الأوسط؟ إنها كلمة تستخدم بمفاهيم مختلفة حتى في أماكن مختلفة في العالم الغربي. ثم إنها مفهوم سياسي ليس له تاريخ.. ليس له سجل موثق من أي نوع في العالم الإسلامي. نحن لا نستطيع أن نفرض طرازات من الديمقراطية ثم نحكم على الشرق الأوسط بموجبها.

يعتقد كثيرون أن العرب يريدون الحرية والديمقراطية، ونحن في الغرب نميل إلى التفكير في الديمقراطية طبقا لمقاييسنا الخاصة.

هذا أمر طبيعي وعادي، وهنا أقصد الانتخابات الدورية، غير أنه من الخطأ أن نفكر في الشرق الأوسط طبقا لهذه المفاهيم التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية، كما شاهدنا بالفعل في أماكن كثيرة.. حماس مثلا لم تؤسس نظاما ديمقراطيا عندما وصلت إلى السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة. شخصيا، ثقتي منعدمة وأنظر بخشية لانتخابات حرة، مفترضا أن ذلك ممكن أن يحدث، لمجرد أن الأحزاب الدينية تتمتع حاليا بميزة القوة.

* لماذا تعتقد أن الأحزاب الدينية تمثل انتكاسة محتملة في الطريق إلى الديمقراطية؟

– الإسلام السياسي يتغير عبر الزمن، ولكن ليس بالضرورة إلى الأفضل. إن الاندفاع نحو الأسلوب الغربي في الانتخابات، بمعزل عن تقديم حلول لمشاكل المنطقة، يزيد من خطورة هذه المشاكل، ولذا أنا أخشى جاهزية جماعات الإسلام السياسي الراديكالي لاستغلال هذا المسار من دون هداية ورشد، في انتخابات حقيقية حرة ونزيهة من المرجح أن تفوز بها الأحزاب السياسية الراديكالية.

لدينا أرقام متعددة من الدوائر الانتخابية تشير إلى التأييد المحتمل لجماعة الإخوان المسلمين.. جماعة الإخوان المسلمين خطرة جدا، والنتائج يمكن أن تكون كارثية على مصر. إنني أتخيل وضعا تستطيع فيه جماعة الإخوان ومنظمات أخرى من النوعية نفسها أن تسيطر على مزيد من الدول العربية. أنا لا أقول إن ذلك سيحدث حتما، بل أقول إن مثل هذا الاحتمال غير مستبعد البتة. وإذا حدث ذلك فستغوص هذه الدول، تدريجيا، في أوحال القرون الوسطى.

* ما هو الطريق الذي ترى أن على الشرق الأوسط السير فيه؟

– أفضل مسار هو السير بالتدريج في تنمية الديمقراطية، ليس عبر الانتخابات العامة بل من خلال القوى المدنية وتقوية الإدارات المحلية. هناك تراث حقيقي لذلك في المنطقة. هناك تقاليد إسلامية لا علاقة لها بالأفكار التي ترفعها جماعة الإخوان المسلمين اليوم، على سبيل المثال مفهوم «الشورى» وهو أحد أركان الحكم في العالم الإسلامي قديما، ستجد أن مفهوم الشورى يختلف في ممارسته عن تفسيرات «الإسلام السياسي» له اليوم بوصفه تعبيرا عن الديمقراطية.

لا تشبه تلك التي تعتنقها جماعة الإخوان.. إنها الشورى، وهي أحد أشكال الحكومات.

عندما تتمعن في تاريخ الشرق الأوسط وأدبياته السياسية الخاصة، ستجد أنها ضد حكم التسلط والطغيان. التقاليد الإسلامية تصر دائما على الشورى. هذه ليست مجرد نظرية… على سبيل المثال، هناك فقرة مهمة في خطاب للسفير الفرنسي لدى السلطان العثماني (الباب العالي) قبل الثورة الفرنسية بقليل. يومذاك أصدرت السلطات الفرنسية تعليمات إلى سفيرها بأن يحث الدولة العثمانية على الإسراع في مفاوضات لم تحقق نتائج لبطئها الشديد، وتساءلت باريس غاضبة: لماذا لا تفعل شيئا؟ فرد السفير بأن «الأمور لا تسير في تركيا (العثمانية) على النحو الذي تعرفه فرنسا، حيث الملك (الفرنسي) هو السيد الوحيد ويفعل كل ما يحلو له.. هنا، على السلطان أن يستشير كل أصحاب المناصب الرفيعة… عليه أن يصغي إلى مشورة التجار والنقابات المهنية وكل الجماعات المشابهة». هذا كله حقيقي، وهذه الوثيقة تكشف بطريقة ممتازة عن أمور ما فتئت تتكرر مرة بعد مرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

كان هناك تراث من نظام الشورى مع جماعات لم تكن ديمقراطية بالمفهوم الذي نستخدم فيه هذه الكلمة في الغرب، غير أن لديها مصدرا للسلطة مختلفا عن سلطة الدولة، وهو نابع من الجماعة ذاتها، سواء كانت من الأعيان ملاك الأرض أو أفراد الخدمة المدنية أو الكتبة وما إلى ذلك، هذه التقاليد توفر أساسا أفضل لنمو حكومات حرة ومتحضرة.

إن الأنظمة السلطوية، حتى الديكتاتورية منها التي تحكم معظم البلاد الإسلامية الحديثة في الشرق الأوسط، ابتكار حديث نتيجة لعملية التحديث، لقد كانت هذه الأنظمة قبل التحديث أكثر انفتاحا وأكثر تسامحا، وتستطيع أن ترى ذلك في الكثير من الأوصاف المعاصرة.

أحد ضباط البحرية البريطانية إبان القرن التاسع عشر وصف ذلك بشكل صحيح عندما قال: «في النظام القديم كان كل من أعيان البلد يعيش في ضيعته، أما في النظام الحديث فقد حول كل منهم البلد إلى ضيعة له.

* ذكرت من قبل أن الغرب كثيرا ما يسيء فهم الفارق بين «الحرية» و «العدالة» في سعيه لدعم التغير الديمقراطي في العالم العربي.. فما الفرق بين المصطلحين في مفهومك؟

– في الغرب نحن نتكلم طول الوقت عن الحرية، ولكن في العالم الإسلامي الحرية ليست مصطلحا سياسيا.. إنها مصطلح قانوني.. الحرية مقابل العبودية. في الماضي كانت العبودية مؤسسة مقبولة في العالم الإسلامي كله.. أنت تكون حرا ما لم تكن عبدا. كانت الحرية مصطلحا قانونيا واجتماعيا من دون دلالات سياسية من أي نوع. تستطيع أن ترى في النقاش باللغة العربية ولغات أخرى، الحيرة التي قوبل بها في البداية هذا المصطلح «حرية».

ببساطة لم يفهموا هذا المصطلح، وتعجبوا من أن يكون له صلة بالحكومة، وفي نهاية الأمر وصلتهم الرسالة، غير أنها ما زالت غريبة على البعض. في المصطلحات الإسلامية، العدل هو المقياس للحكومة الرشيدة، وأقرب كلمة عربية لمفهومنا عن الحرية هي كلمة «العدل» (Adl)، والتناقض الحاد ليس بين الحرية والطغيان، وبين الحرية والعبودية، ولكن بين العدل والقمع، وبين العدل والظلم، من هذا المنظور تستطيع أن تفهم آليات التفكير السياسي في العالم الإسلامي.

* كيف يمكن للغرب أن يستجيب بشكل أفضل لما يحدث من تغييرات في العالم العربي؟

– ما يشعرني بالضيق الآن حول الشرق الأوسط ليس ما يقال في الأوساط الإعلامية والأكاديمية بل السياسات التي تطبق على الأرض… نواجه لحظة نحن عاجزون فيها عن التأثير في الأحداث. إننا نرسل الإشارات الخطأ، علينا أن نكون واضحين وأشد إصرارا على الحاجة إلى الحرية في الشرق الأوسط وعن رغبتنا في مساعدة أولئك الذين يعملون من أجلها.. هناك سؤال عن نوع الديمقراطية التي تصلح للعالم العربي.

هناك وجهات نظر مختلفة، الأولى التي يطلق عليها أنها متعاطفة مع وجهة النظر العربية تقول: هؤلاء الناس ليسوا مثلنا ولديهم طرق مختلفة، وتقاليد مختلفة، علينا أن نعترف بأنهم عاجزون عن إقامة ديمقراطية تشبه ما لدينا، ولذلك يجب أن يكون الهدف لسياستنا هو الحفاظ على الاستقرار والتأكد من أنهم يعيشون تحت حكم طغاة أصدقاء، أو على الأقل ليسوا معادين لنا.

في الحقيقة والواقع وجهة النظر هذه ليست مع العرب بما تظهره من جهل بماضيهم وقلة اهتمام بحاضرهم، وأقل القليل بمستقبلهم.

وجهة نظر ثانية تقول: هؤلاء هم ورثة حضارة قديمة، ولقد مروا بأوقات سيئة غير أن لديهم في مجتمعاتهم عناصر ستساعدهم، وبالتالي علينا أن نغذي هذه العناصر من أجل نمو شكل من أشكال الحكومات المتوافق عليها ولو بشكل محدود، وذلك من خلال تقاليدهم الثقافية. أعتقد أن ذلك يظهر احتراما أكبر لطموحات وآمال أهل المنطقة.. في أوقات التحول. ربما ساعدت الأفكار الغربية على التسريع بحدوث الأزمات، مثل حرب السويس 1956، وحديثا في «الربيع العربي» 2011، ولكن الناس هم أنفسهم سيكونون القادرين على حل هذه الأزمات.

علينا أن نعي أن ما نقدمه لهم من حلول مهما كانت جيدة، ستكون عديمة المصداقية عندهم لمجرد أننا نحن من قدمها، وهذا على الرغم مما نرسله لهم من سلاح وأموال.

* فيما يختص بمستقبل المنطقة، بعد مائة سنة تقريبا من اشتباكك معها، ما هي التحديات التي ترى أنها ستواجهها في الحقب المقبلة؟

– أعتقد أن الشرق الأوسط يواجه مشكلتين حرجتين: الأولى كما ذكرت سابقا، صراع أفكار وهويات. ووثيق الصلة بذلك البترول عندما يكف العالم عن اعتباره مصدر الطاقة الأساسي في الاقتصاد العالمي.. حجم صادرات العالم العربي كله، طبقا لإحصاءاتهم، أقل مما تصدره فنلندا، وهي بلد أوروبي صغير.. سيستهلك البترول أو تحل محله مصادر جديدة للطاقة، عندها سيكون لديهم لا شيء تقريبا.. في هذه الحالة من السهل أن نتخيل موقفا تكون فيه شمال الصحراء في أفريقيا مثل جنوبها مع هجرات متزايدة.

* ما انطباعاتك عن بشار الأسد؟ ماذا ستكون عليه الطائفية في سوريا؟

– الأسد رئيس عرضي… لم يكن مفترضا به أن يكون رئيسا، كان من الأفضل له أن يكون لندنيا (أحد سكان لندن). لقد لاحظت أنه عبر التاريخ عندما تعيش الأقليات تحت التهديد، بدلا من أن تتجمع معا، كانوا يستخدمون لضرب بعضهم ببعض.

* بعد مرور ثلاثين سنة على اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية.. ما هي ذكريات عن لحظة السلام؟

– خلال زياراتي لمصر، تعودت أن أرى تقريبا نفس الناس في كل مرة. عندما تذهب إلى بلد على فترات وتتكلم مع الأشخاص أنفسهم، تستطيع أن تقيس التغيرات في السلوك والمزاج. هذا يعطيك صورة مقطعية للرأي العام، مستخدما العينات ذاتها.

بعد غياب عدة سنوات عدت إلى مصر في 1969.. كان عبد الناصر ما زال حيا يحكم، ورغم أنني قابلته فإنني لا أذكر أن حوارا جادا دار بيننا، ولكنني رأيت عددا كبيرا من الناس من بينهم أصدقاء قدامى، وكنت مندهشا للغاية من تغير المزاج، وخرجت بانطباع واضح بأن عبد الناصر مستعد للسلام. وكتبت بالفعل مقالا نشرته مجلة «إنكاونتر» (Encounter) باسم مستعار، قلت فيه ذلك.. قلت إنني أعتقد أن مصر جاهزة للسلام، وإن المفاوضات من الممكن أن تؤدي إلى اتفاقية بين مصر وإسرائيل. حدث ذلك قبل عشر سنوات تقريبا من الاتفاقية (كامب ديفيد).. ذهبت إلى مصر بعدها عدة مرات سنوات 1970 و1971 و1974، قبل وفاة عبد الناصر وبعد حرب «يوم كيبور» (حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973).

لم أقابل السادات الذي تولى السلطة بعد وفاة عبد الناصر في 1970، ولكنني قابلت عددا من مستشاريه المقربين وكنت مقتنعا تماما بأن مقاربة مباشرة من مصر من الممكن أن تأتي بنتائج.

مع أول فرصة بعد عودتي من رحلة 1969 ذهبت إلى إسرائيل وقابلت غولدا مائير وحاولت إقناعها بأن المصريين جاهزون، وأن خطوة مباشرة تجاهها ممكن أن تأتي بنتائج، لكنها يومها لم تصدقني، وأوضحت لي أنني قد سمحت لنفسي بأن يخدعني المصريون، وأن كل ذلك مجرد كلام فارغ. وقلت ذلك لدايان (موشيه دايان) كما قلته لرابين (إسحق رابين) وكتبت له خطابا حول ذلك، غير أن كل ذلك وقع جميعا على آذان صماء.. لم يصدقوني، أو ما أرادوا تصديقي.. مناحم بيغن هو الذي صدق ذلك.

* تحدثت عن اتصالك بغولدا مائير.. ماذا كان انطباعك عنها؟

– الطلبة في جامعة برنستون لديهم جماعة ممتازة للنقاش، وكانت العادة أنه من وقت لآخر كانت هذه الجماعة تدعو شخصا متميزا للحضور إلى برنستون ضيفا عليهم. في عام 1975 دعتها الجماعة بعدما تركت منصب رئاسة وزراء إسرائيل، فوافقت وكانت زيارة مليئة بالحيوية والأحداث. أحد الطلبة حثها على أن تترك التدخين لأنه ضار بصحتها فأجابت السيدة ذات السبعين سنة: «لن أموت صغيرة..».

خلال الزيارة حضرت اجتماعا نظمته لها الفتيات في حرم الجامعة، كن جميعا من الطالبات المستجدات المتحمسات، علقوا صورة لها وكتبوا عليها «ولكن.. هل تستطيع الكتابة على الآلة الكاتبة؟».

النقطة المهمة في هذه الزيارة، كما في الزيارات المشابهة، كانت خطابا عاما في القاعة الكبرى في الجامعة، ويومها امتلأت القاعة عن آخرها. رئيس الندوة، وكان شخصية شهيرة، قدمها على نحو لائق، ثم طلب منها أن تتكلم. قامت مائير إلى المنصة وقالت: «أعتقد أنكم تشاركونني الرأي في أن الخطابات في مثل هذه المناسبات مدعاة للملل، الجزء الممتع فيها هو الأسئلة والإجابات عنها. إذا سمح لي رئيس الجلسة فسأقترح أن نتجاوز الخطاب، أنتم تعرفون من أنا.. وتعرفون من أين أتيت.. وتعرفون ماذا يمكن أن أقول.. لذلك دعونا نحذف الخطاب ونتجه مباشرة إلى الأسئلة».

في ذلك الوقت، كانت منظمة «اليونيسكو» قد رفضت قبول عضوية إسرائيل وقبلت منظمة التحرير الفلسطينية. أجابت مائير بثبات: «كما تعرف حروف كلمة اليونيسكو تشير إلى اسمها، وهو منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة.. وبذلك يفترض المرء أن هؤلاء السادة لاعتبارات كثيرة قرروا أن منظمة التحرير الفلسطينية لديها من التعليم والعلم والثقافة أكثر من إسرائيل».

كانت مائير شخصية صلبة وملتزمة جدا، كما كان لديها نظام مرشحات داخلي شخصي انتقائي يسمح لها بأن تسمع فقط ما تريد أن تسمعه. عندما كانت تلتقط أي شيء مما أقول يتفق مع طريقتها في التفكير كانت تمسك به على الفور وتستخدمه، وأي شيء لا يناسبها كان يمر من دون أن يستوقفها، كما حدث على سبيل المثال عندما ذهبت إليها في 1969 بحكايتي عن المصريين، وأنهم على استعداد للتفاوض من أجل السلام.

* من خلال رحلاتك المتعددة حول العالم، هل قضيت أي وقت في المملكة العربية السعودية؟

– لسنوات كثيرة سافرت كل عام تقريبا إلى الأردن، حيث أحتفظ بعلاقات شخصية مع الأسرة المالكة. لقد عرفت الملك حسين وشعرت تجاهه بالاحترام، وساعدني ذلك على أن أكون على صلة بما يحدث في العالم العربي. دخلت شمال السعودية مع سائق الملك حسين من دون تأشيرة، كما زرت تركيا ومصر مرات كثيرة، ولبنان عندما كان ذلك ممكنا. لم يحدث أن ذهبت إلى إيران منذ الثورة رغم أنني تلقيت، لدهشتي، دعوة للاشتراك في مؤتمر حول حوار الأديان.. موضوع الندوة شائق ومهم بالنسبة لي، إلا أنني لم أشعر بالرغبة في الاشتراك فيها تحت رعاية النظام الحالي.

* من خلال مواجهاتك الطويلة مع الشرق الأوسط مهنيا وثقافيا، من هو كاتبك المعاصر المفضل في العالم العربي؟

– رفاعة الطهطاوي، الذي درس في جامعات أوروبية وعاش في مصر في منتصف القرن التاسع عشر. لقد كتب أعمالا مهمة عن مبادئ الإسلام وتوافقها مع الحداثة خلال فترة تغيير مهمة تداخل فيها العالم الإسلامي مع الغرب في القرن التاسع عشر. إن منظوره ومطارحاته زاد من ثرائها فهمه لأوروبا وكيف أن مبادئ الإسلام والحداثة الأوروبية من الممكن أن يكمل أحدهما الآخر.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط