رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

التهجير والإبادة والتدخل ضد التكفيريين!

آراء

لا يجوز أن تبقى أمورنا في زمن «الثورات» واقعة بين رثاء النفس ومعذرتها. فقد سمعت أحد نواب حزب الله يقول إنهم إنما يتدخلون في سوريا لحماية المقدسات من التكفيريين! وهذا عذر أقبح من ذنب. فحسن نصر الله نفسه قال قبل أيام إنهم إنما تدخلوا في سوريا ويتدخلون للحيلولة دون سقوط النظام، ولحماية «الشيعة» اللبنانيين بالقصير، ولحماية مقام السيدة زينب من التكفيريين! وهكذا تطور الأمر خلال أسبوع ليصبح القتال في سوريا علته التكفيريون ولا شيء آخر! لكنني سمعت أيضا البطريرك يوحنا العاشر وبمناسبة الفصح الشرقي يقول إن المسيحيين في سوريا هم بين خائف وهارب أو مقتول! وقد تكون في هذه المقولة مبالغة، لكنها تستند ليس إلى وعي معين فقط؛ بل إلى وقائع تتالت وتفاقمت عبر العامين الماضيين. ونحن نعلم أن الإيرانيين وحزب الله تدخلوا منذ أكثر من عام أيضا. لكن ما الداعي لتهديد مقام السيدة زينب، وما الداعي لنبش القبر المنسوب للصحابي حجر بن عدي، وما الداعي لخطف المطرانين، وما الداعي في تونس لاعتزال ثلاثة آلاف في شعاب الجبال لأنه «إما هم وإما المجتمع الجاهلي السائد» وقد عمد المسلحون في ليبيا أيضا لتخريب الأضرحة. وهو الأمر نفسه الذي يحدث بالسودان بحجة مكافحة بناء الحسينيات أو تقديس القبور. وقد صار مثل ذلك أو شبيهه في الجزائر في التسعينات بحجة مكافحة البدع أو منع الزيارات للأضرحة والمقامات الصوفية.

عندما صدر كتاب عبد السلام فرج في أواخر السبعينات بعنوان «الفريضة الغائبة» وهو يعني بها الجهاد بالداخل العربي والإسلامي، قال لنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «إنها موجة تكفيرية نسأل الله سبحانه أن يقينا شرها!»، وعندما لم نفهم نحن سامعيه ماذا يقصد، قال لنا: «إن النظرية الكلاسيكية في الجهاد تقع بين جهاد الدفع وهو الأغلب، وجهاد الطلب، وهذا النوع الثاني لا يقول به أكثر الفقهاء. إنما على أي حال، فكلا النوعين يحدث بين الأمة والخارج، وعندما يقول قائل بالقتال في الداخل، فلأنه يعتبر أن الداخل صار أرضا للجهاد أيضا، لأن الدار لم تعد دار إسلام، ويحدث ذلك لأحد ثلاثة أسباب: الاستيلاء الخارجي على الأمة والدولة، أو الانحراف العقدي الكبير من جانب النظام ومعظم المجتمع، أو التشخيص بأن البدع تكاثرت، وتعذر أداء العبادات. فصار يمكن القول إن المجتمع ترك النهج المستقيم، بحيث ما عاد أحد يستطيع إقامة عباداته، وإجراء معاملاته في أمن وأمان»!

الجهادية بالداخل تأتي معها إذن بالتكفير. والتكفير سبيل لحروب أهلية، لأن عقائد الناس ومذاهبهم تختلف. وإذا اعتبر فريق أن ممارسات الآخرين مسلمين وغير مسلمين، هي بدع وكفريات، فإنه يستحل لنفسه شن الحرب عليهم أو على بدعهم، فيكون من حق هؤلاء الدفاع عن اعتقاداتهم ومزاراتهم وأسلوب حياتهم. وأذكر أنه عندما شنت «القاعدة» غارتها على الولايات المتحدة، فإن الإنجيليين المستنفرين تساءلوا في رسالة صارت مشهورة وجهوها للعرب والمسلمين: لماذا تكرهوننا؟! وقد أجابوا وقتها أنفسهم: أنتم تكرهوننا بسبب أسلوب حياتنا واعتقاداتنا وحرياتنا والنجاح الذي حققناه ونحققه. ورحنا نحن نجيبهم قائلين إنه لا معذرة لما قام به الذين هاجموا برج التجارة العالمي، لكن السياسات الأميركية ما كانت حسنة تجاه قضايا العرب والمسلمين! وكان ذلك دفاعا ضعيفا بالطبع، لأن أزمنة الاستعمار والحروب ما كانت أقل قسوة على الصينيين والهنود واليابانيين، ومع ذلك فإن تلك الأمم ما أجابت على الطريقة الجهادية والانتحارية، وقد استطاعت أخذ حقوقها وحرياتها وسيادتها دونما استعراض للناس، أو قتل للمدنيين لا لشيء إلا لأنه تصادف أنهم أميركيون!

ولنعد إلى مشكلاتنا نحن بالداخل العربي والإسلامي. ما كانت مجتمعاتنا في يوم من الأيام على دين أو مذهب واحد. وقد ظل المسيحيون في بلاد الشام أكثرية إلى زمن الحروب الصليبية. أما الشيعة الإمامية فهم موجودون بيننا منذ القرن الخامس الهجري، وكذلك الفرق المتطرفة في الاعتقاد. وقد عشنا معا في السراء والضراء، وصار لدينا فقه للعيش بديع. وكذلك الأمر مع الصوفية وقبور أوليائهم ومزاراتهم. وقد ذكر عبد الغني النابلسي في القرن الثامن عشر أن ثلثي المسلمين السنة من أتباع المذاهب الأربعة، ينتمون إلى إحدى الطرق الصوفية. وبالطبع فقد كان هناك متشددون فيما بيننا لا يقبلون هذا الأمر أو ذاك، لكن عندما استفتى أحدهم عز الدين بن عبد السلام (660هـ) بشأن جواز التعرض لأهل البدع إن أظهروا بدعتهم ارتاع سلطان العلماء وأجاب السائل بحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن السفينة ذات الطبقتين، وقد فكر المبحرون في الطبقة الأولى أن «يخرقوا» في نصيبهم خرقا: «فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». وما قصده ابن عبد السلام أن هناك نظاما للعيش تعارف عليه الناس وصار بمثابة «العقد» بينهم، وليس من حق أحد منهم خرق العقد أو النظام أو ينهدم المجتمع. فكيف يكون الإنسان في دار الإسلام «آمنا بالأمان الأول» كما يقول الأحناف والمالكية والحنابلة، وكيف تكون مجتمعات المسلمين مجتمعات ثقة، كما قال عالم الأديان المعاصر تشارلز تايلور، إن كان هناك نبش وقتل واعتزال؟!

منذ نحو مائتي عام ومجتمعاتنا تتعرض لوجوه فظيعة من الاستهداف والتجريف للإنسان والأعراف وأوليات العيش. وقد كانت لذلك نتائج وردود فعل. ظهر المنقبض والمعتزل والمنكفئ. وظهر التارك للدين والتقليد. وظهر المجنون والخارج على الناس بسيفه ويده. وظلت الكثرة الساحقة من أهل المجتمعات على ما عودها عليه دينها من ثقة برحمة الله وعونه. وعلى مدى ثلاثمائة عام اختلف المتكلمون المسلمون بين معتزلي وسني، أي القيم والفضائل أولى بالاعتبار، فقالت المعتزلة إن العدل هو القيمة العليا، وقال أهل السنة: بل إن الرحمة هي القيمة العليا. ومع الرحمة الإلهية لا تكفير ولا تبديع ولا تخريب، وإلا فما هو الزمان الذي تحدث عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والذي يكون فيه المؤمن القابض على دينه كالقابض على الجمر. وما معنى القبض على الجمر إن لم يكن صبرا على الشدة، ونظرا للغد، وأملا برحمة الله؟

نعم، منذ قيام الثورة في سوريا، تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على القصعة. لقد خرج الناس من أجل الحرية، وانصرف النظام القائم لقتلهم وتشريدهم وتخريب ديارهم. وقال لهم العالم كله إنه مع النظام ضدهم، وما تردد أناس من العرب في القول: إننا ضدكم لأنكم أكثرية، والأكثرية تطغى: متى طغت الأكثرية من قبل حتى تطغى الآن؟ وأما كان النظام القائم طغيانا وقتلا للجميع طوال خمسين عاما؟ لكن وإن تدخل الإيرانيون وحزب الله وعصائب الحق والباطل في قتالكم، فهل تنصرفون أيها الثائرون أو ينصرف بعضكم لهدم المقامات ونبش القبور لأناس صالحين أجدادكم هم الذين بنوا عليهم، ولا شأن لهم من قريب أو بعيد بمطامع الإيرانيين، وخنزوانات حزب الله وميليشياته؟ ثم لماذا ينبغي أن يخاف المسيحي ويهجر أرضه وسواء أكان ثائرا معكم أو لم يثر، فهو مواطن مثلكم، وسيظل كذلك أو لا تكون لنا جميعا حياة.

إنها أنظمة إجرامية هذه الجمهوريات الأمنية الخالدة. لكن الشعوب التي ثارت ما ثارت من أجل قلة دين الحكام، بل من أجل طغيانها وسوء إدارتها. ولذا فقتالها ليس جهادا، بل هو تمرد على الظلم، وتطلب للحرية. وكيف يستقيم الدين أو ينتظم بهدم مقام أو اعتزال في جبل أو تخويف الناس أو تقليد العصابات في السفك والقتل؟ أخيرا كيف نكون أكثرية ونتصرف تصرف الأقليات المذعورة؟!

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط