«الخجل الاجتماعي» يحرم أطفـالاً متوحدين حقهم في العلاج والتأهيل

أخبار

يعتبر مرض طيف التوحد مرضياً نفسياً عصبياً، يصيب طفلاً واحداً من بين 150 طفلاً، وتبلغ نسبة الإصابة في الذكور أربعة أضعاف نسبة الإصابة في الإناث، وفق آخر الأبحاث العالمية، وأكد مختصون أنّ التشخيص المبكر، وزيادة مستوى وعي الأهل، والبدء المباشر بالعلاج التأهيلي من خلال برامج مقنّنة، تُعنى بتدريب الأطفال، وتحسين مستوى التواصل البصري والسمعي لديهم، واللجوء إلى استخدام بعض العلاجات، قد تسهم بشكل كبير في تحسين قدرات الطفل المصاب بشكل ملحوظ، وتمكنه من الالتحاق بالمدارس لاحقاً، والانخراط في الحياة الاجتماعية بشكل طبيعي.

إلا أن «الخجل الاجتماعي» لدى بعض الأسر يشكل أهم العوائق الرئيسة التي تحرم هؤلاء الأطفال الحصول على العلاج التأهيلي المناسب، وتقضي على حقهم في التمتع بالحياة العامة، أسوةً بأقرانهم من الأسوياء، إذ إن بعض الأسرة تعتبر إصابة أحد أطفالها بالتوحد أمراً مخجلاً يجب التكتم عليه، وترى بعض الأسر أن التكتم على أطفالها المصابين بالتوحد يجنبها نظرة الشفقة والعطف من الآخرين، فيما رأت أسر أخرى أن الإفصاح عن وجودهم يولد الحذر والخوف من التفكير في الاقتران بشقيقاتهم، خشية وراثة الإصابة أو الإعاقة، كما يصفها البعض.

في المقابل، أكد مختصون ومديرو مراكز تأهيل وعلاج التوحد أن إنكار بعض الأسر وجود طفل مصاب بالتوحد لديها، وإبقاءه حبيس جدران المنزل يحرمه من التدخل المبكر للعلاج، الذي يسهم بنسبة 99.9% في تحسن حالته وتأهيله.

وأرجع أخصائيون اجتماعيون تجاهل بعض الأسر علاج طفلها المتوحد إلى ثقافة العيب وانعدام الوعي لديها، مؤكدين أن تهميش الطفل المتوحد ينعكس سلباً على سلوكياته ونفسيته، لشعوره بالحرمان من أبسط حقوقه، ويفقده القدرة على التعايش اجتماعياً، مطالبين بتزويد المقبلين على الزواج بالوعي اللازم للتعامل الصحيح مع أطفال التوحد.

وعلى الرغم من أنّ المصابين بالتوحد يتمتعون بقدرات جنسية طبيعية، إلا أنّ عجزهم الاجتماعي يعتبر سبباً أساسياً في عدم زواجهم.

قالت (أم صلاح)، والدة طفل مصاب بالتوحد، إن «خجلي وبعض الأسر، وتكتمنا على وجود طفل متوحد، يرجع إلى الخوف من الوصمة الاجتماعية، وعدم تقدم أحد لزواج شقيقات الطفل المتوحد، لاسيما أننا في مجتمع يظن أن العوامل الوراثية تلعب دوراً كبيراً في الإصابة باضطراب طيف التوحد».

وروت المواطنة عائشة الكندي، أم طفلة تبلغ من العمر 11 عاماً، مصابة بطيف التوحد، معاناتها قائلة «حين أكملت طفلتي الأشهر الثمانية الأولى من عمرها لاحظت عدم استجابتها للأصوات والتفاعل مع المحيطين بها، ما جعلني أتوجه بها إلى المستشفى الذي رجّح أن تكون مصابة بالتوحد، إلا أن الصدمة النفسية التي ألمت بي جعلتني أنكر الاعتراف بإعاقتها، خوفاً عليها من نظرة الشفقة في أعين المحيطين بها، فعدم استيعابها لما يدور حولها يجعلها تعيش في عزلة تامة، وعجز عن تأدية الوظائف الذاتية في حياتها اليومية».

وتابعت: «بعد مرور عام، لاحظت أن حالة طفلتي تزداد سوءاً، بسبب صراخها المستمر، وعدم تجاوبها مع الأصوات والابتسامات، فضلاً عن استمرارها بالتحديق في الأشياء بطريقة غير طبيعية، ما دفعني إلى السفر بها إلى دولة أوروبية، من أجل تشخيص حالتها وعلاجها، وهناك أكدوا أهمية إلحاقها بمركز متخصص في علاج ذوي التوحد، كون علاج وتأهيل هذه الفئة يحتاج إلى مدة زمنية طويلة».

وأضافت: «استمر ترددي على المراكز المتخصصة خارج الدولة مرات عدة، وكانت طفلتي وقتها تعدت الخامسة من عمرها، إلا أن العلاج لم يُجدِ معها، كونه يقدم إليها على فترات متقطعة، ما اضطرني إلى عدم اصطحابها أثناء خروجنا إلى الحدائق والأماكن العامة، خوفاً من فقدانها، بسبب عدم السيطرة على سلوكها، علاوةً على المواقف المحرجة التي تضعني فيها بتكسير الأشياء والأبواب في الأماكن العامة، وعند زيارة الصديقات».

وذكرت المواطنة، رنا البستكي، أن والدتها رزقت بطفلٍ مصاب بالتوحد، إلا أنه لم تتم معرفة إعاقته في بداية الأمر، ظناً من والديها أنه مصاب بالحسد، لذا دأبوا على مراجعة قارئي القرآن الكريم داخل الدولة وخارجها أعواماً متواصلة، إلى أن بلغ الطفل الخامسة من عمره.

وأضافت: «حين وصل والدي إلى مرحلة اليأس توجه به إلى أحد المراكز المتخصصة التي شخصت حالته بعد جلسات التقييم بالتوحد، الأمر الذي أصاب والدي بصدمة، وجعله يعيش حالة نفسية سيئة، نجم عنها خوف مبالغ فيه على شقيقي، حتى من والدتي، ما دفعه إلى الاستقالة من عمله من أجل التفرغ لتقديم الاهتمام والرعاية الكافية له في المنزل، بمساعدة معلمٍ مختص»، متابعة: «رفض والدي تسجيله في أي مراكز متخصصة لتأهيل المصابين باضطراب طيف التوحد، ما جعله حبيس المنزل، خوفاً عليه من نظرات الشفقة من الآخرين، خصوصاً أن كثيراً من أقاربنا عزوا سبب إعاقة شقيقي إلى زواج الأقارب».

وعزت المواطنة روضة حمد تأخر بعض الأسر في تقديم العلاج المبكر لأطفالها المصابين بالتوحد إلى أسباب عدة، منها جهلها بالأعراض الحقيقية لهذا الاضطراب، فضلاً عن تأثير الصدمة الأولى على بعض الأمهات، حيث تكون لها ردة فعل سلبية، تجعلهن يعشن في حالة إنكار ورفض للواقع، وعدم الاعتراف به.

فيما اعتبرت مديرة مركز الإمارات للتوحد، أمل جلال صبري، أن «الخجل الاجتماعي» لدى بعض الأسر، وعدم الاعتراف بإصابة طفلها بالتوحد، من المعوقات الرئيسة التي تحول دون علاجه المبكر، وتبقيه حبيس المنزل، موضحة أن بعض الأسر تخفي أن لديها طفلاً مصاباً بالتوحد، تجنباً لنظرة الشفقة من المعارف وأفراد المجتمع، الأمر الذي يؤخر حصول الطفل المتوحد على فرص العلاج المبكر، لافتة إلى أن عشرات الأسر تصر على إبقاء أبنائها المتوحدين في المنازل، وعدم إخراجهم معهم إلى الأماكن العامة، خوفاً من نظرات العطف في عيون الآخرين.

وأشارت إلى أن عدم اعتراف الأسر بوجود طفل مصاب بالتوحد لديها يحرمه التدخل المبكر الذي لا يكون مجدياً إلا في الأعوام الثلاثة الأولى من عمره، والذي يسهم في علاج حالة الطفل، وتطوير مهاراته وقدراته على التواصل مع الآخرين، ودمجه في صفوف الدراسة وبين نسيج المجتمع.

وعزت صبري سبب رفض بعض الأسر الاعتراف بأن طفلها مصاب بالتوحد، على الرغم من ضعف مهارات التواصل والاستجابة لديه، إلى قلة أو انعدام التوعية لدى بعض الأسر حول أعراض اضطراب طيف التوحد، كما أن الطفل المصاب يكون سليماً جسدياً، ما يجعل أسرته تنكر إصابته بأي اضطراب عقلي يجعله يصنف على أنه من ذوي الإعاقة.

وأفادت بأن الأسرة التي لديها طفل مصاب بالتوحد، وبعد تخطي مرحلة الإنكار، الذي يكون سببه «الخجل الاجتماعي» في بعض الحالات، فإنها تواجه مرحلة الصدمة التي تؤدي إلى عدم معرفة التشخيص الطبي الحقيقي لحالة طفلها، والتي يجب على الأسرة أن تتخطاها في وقت قياسي، وتلتفت إلى مصلحة الطفل بالدرجة الأولى، ومن ثم تأتي مرحلة التدخل المبكر، الذي لا يؤتي ثماره إلا في سن صغيرة.

وبيّنت صبري أن المختصين يتولون إخضاع الطفل المتوحد لمراحل تشخيصية عدة، للتأكد من إصابته، وتتضمن هذه المراحل التقييم الذي يقيس قدرات التواصل والتجاوب لديه، ودراسة سلوكياته الحركية وردود أفعاله تجاه بعض المؤثرات، وفي حال التأكد من إصابته بالتوحد، تأتي مرحلة تعديل السلوك، وبعدها التدريب والتأهيل على البرنامج التعليمي الفردي الذي يضعه ذوو الاختصاص، وتبقى المرحلة الأخيرة، وهي التهيئة للدمج في المجتمع.

وتابعت: «لدينا في المركز 50 من الطلبة المصابين بالتوحد، تمكنّا من دمج 29 منهم في الفصول الدراسية في المدارس الحكومية والخاصة، برفقة معلمي ظل، تحت إشراف مجلس أبوظبي للتعليم، بينما 21 من الطلبة لم نتمكن من دمجهم، كونهم لم يخضعوا لتدخل علاجي مبكر، بسبب إلحاقهم بالمركز في عمر متأخر، ما أفقدهم 50% من قدرات التفاعل الأكاديمية»، موضحة أن التدخل المبكر يسهم بـ99.9% في علاج مرضى التوحد، خصوصاً في الأعوام الثلاثة الأولى من عمر الطفل.

وناشدت صبري الأسر التوجه بأطفالها إلى مراكز الاختصاص، بمجرد الشك في معاناتهم أعراض التوحد، المتمثلة في عدم التفاعل، والصمت اللافت، أو الصراخ الزائد، من أجل تشخيص حالة الطفل وفق الأعراض التي يعانيها، اعتماداً على ملاحظات الأم، من أجل وضع خطة علاجية مناسبة تسهم بشكلٍ كبير في تطوير مهارات التفاعل الاجتماعي لديه، ودمجه في المجتمع لاحقاً.

وذكرت أن عملية تطعيم الرضيع في الأشهر الأولى أسهمت في الكشف عن الإصابة باضطراب طيف التوحد لدى بعض الأطفال، وذلك من خلال تقييم تفاعله عبر الاستبيان المقدم للأم.

إلى ذلك، قالت أخصائية اجتماعية – فضّلت عدم نشر أسمها – إن الخجل الذي يسيطر على نفوس بعض الأسر ويمنعها من الإفصاح عن وجود طفل متوحد لديها، والتردد في الإعلان عن ذلك، يرجع إلى اعتقادها بأنه يبعد الشباب عن التقدم للزواج ببنات الأسرة، خشية توارث الإعاقة، فضلاً عن الاعتقاد بأن ذوي الإعاقة نذير شؤم داخل الأسرة، وجميع هذه المعتقدات تدل على انعدام الوعي داخل بعض البيوت.

وأشارت إلى أن خجل بعض الأسر من الابن المتوحد لا يعتبر ظاهرة في الدولة، إلا أن إهمال الأسرة للابن المتوحد، وتجاهله، وتهميشه، ينعكس سلباً على سلوكه ونفسيته، لشعوره بالحرمان من أبسط حقوقه، كما يقضي على حقه في التمتع بالحياة العامة، فضلاً عن أن تجاهله يفقده القدرة على التعايش اجتماعياً.

وشددت على ضرورة أن تحترم الأسر أطفالها المتوحدين، وأن ترضى بوضعهم الصحي، وعدم النفور من ذلك، كون الجهات الحكومية المختصة وفرت مقار لهذه الفئة، مزودة بعدد من الخدمات والتسهيلات، بما يضمن لهم حياة كريمة.

من جانبها، أكدت مديرة مركز أولادنا لذوي الإعاقة في الشارقة، مها العازار، أن خجل بعض الأسر من الاعتراف بوجود طفل متوحد، مراعاة للاعتبارات الاجتماعية، يحرمه الحصول على العلاج المناسب الذي يطور من قدراته السلوكية والتفاعلية، ومن التأهيل الذي يكون عاملاً فاعلاً في دمجه بالمجتمع.

وأشارت إلى أنه في حال عدم تقبل الأسر لأي إعاقة تواجه أطفالها، فإن معاناة الطفل تزداد، بسبب تأخر تلقي العلاج المبكر ومتابعة تطور حالته.

من جانبه، يرى مدير مركز التدخل في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، محمد فوزي، سبب تأثر بعض الأسر بالاعتبارات الاجتماعية عند تأهيل وعلاج طفلها المتوحد، يرجع إلى الثقافة السائدة في المجتمع، وقلة الوسائل التثقيفية المتاحة، موضحاً أن فهم بعض الأسر الخاطئ حول معرفة أعراض التوحد يعد أحد العوائق الرئيسة التي تأخر تلقي العلاج، إذ إن نتائج التشخيص الدقيق تأتي بعد عام ونصف العام من عمر الطفل، مطالباً الجهات المختصة بتزويد المقبلين على الزواج بالتوعية التي تؤهلهم لمواجهة أي إعاقة قد تصيب أحد أطفالهم مستقبلاً بالطرق العلاجية الصحيحة، بعيداً عن الاعتبارات الاجتماعية السلبية.

من جانبه، أفاد مدير مركز الشارقة للتوحد التابع لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، هيثم الحياري، بأن ما يسمى «ثقافة العيب»، المتعلقة بأسر أطفال التوحد، لاتزال موجودة عند بعض الأسر، والتي تؤثر بشكلٍ كبير في نوعية الخدمات المقدمة لأبنائها، وبالتالي تحسين نوعية حياتهم، وتمكينهم في المجتمع.

وأكد أهمية الكشف والتدخل المبكر الذي يجب أن يكون منذ الساعات الأولى من حياة الأطفال، الذين قد يظهرون تأخراً في مجال أو أكثر من المجالات النمائية، أو المعرضين لخطر الإصابة بالإعاقة أو اضطراب التوحد، معتبراً أن هذه الإجراءات مفتاح لحياة هؤلاء الأطفال، ومحك مهم لتحديد مصيرهم، لافتاً إلى أن دمج هؤلاء الأطفال أنجح ما يكون في هذه المراحل العمرية المبكرة، لأسباب عدة، أهمها أن الأطفال الأسوياء في مرحلة الحضانة وما قبل المدرسة لا يجدون صعوبة في تقبل الفروق الفردية بينهم.

وأضاف أن المناهج التعليمية في هذه المراحل لا تأخذ المعيار الأكاديمي كمحك للنجاح أو الانتقال إلى المراحل اللاحقة، وإنما تهتم بالتطور في المجالات النمائية، مثل التواصل والتفاعل الاجتماعي، والنمو الحركي، وغيرها، فضلاً عن أن هناك مراحل حرجة في حياة الطفل، يتطور فيها النمو بشكلٍ مطرد، وهي الأعوام الخمسة الأولى من حياته.

وتابع أن نوعية الخدمات المقدمة للأشخاص من ذوي اضطراب التوحد من أسرهم ترتبط بالعديد من المتغيرات، مثل المستوى التعليمي والاقتصادي للأسرة، ودعم الأقارب مثل الأخوة والأخوات والعم والخال والجد، والوضع الاجتماعي للأم (مطلقة أو غير مطلقة)، وشدة الإصابة بالاضطراب.

وقال إنه على الرغم من صعوبة تحديد إحصاءات دقيقة على الصعيد العربي لنسب انتشار اضطراب التوحد، للعديد من الأسباب، أهمها عدم توافر أدوات كشف وتشخيص دقيقة، وقلة الخبراء والممارسين في مجال القياس والتشخيص، وسيطرة «ثقافة العيب»، وغيرها، إلا أن الدراسات العلمية الحديثة في هذا الخصوص تشير إلى أن نسبة انتشار طيف التوحد في تزايد مستمر ومطرد وخطر، وصلت إلى وجود حالة اضطراب توحد لكل 68 حالة ولادة، عازياً هذه الزيادة في الإصابات إلى أسباب عدة، أهمها: تطور أدوات الكشف والتشخيص، والتغير في معايير التشخيص العالمية، والتلوث البيئي، وغيرها.

المصدر: الإمارات اليوم