الغذامي: المثقف أصبح قيمة ظرفية ولم يعد ذا قيمة فاعلة

منوعات

عبد الله الغذامي د. عبد الله الغذامي

الفلاسفة العرب المسلمون – كابن خلدون مثلا – حين نظروا إلى الفروقات بين الشعوب وجدوا أنّها خصائص ناتجة من ظروف معيشية وبيئية وليست جوهرا إنسانيا.. هذا ما يذهب إليه المفكر السعودي الدكتور عبد الله الغذامي في حوار أجرته معه «الشرق الأوسط»، في الرياض.

ولكن الغذامي اتخذ من ذلك منطلقا لتفسير محاولة بعض المثقفين الانخراط في التحليلات السياسية للأوضاع التي تعيشها المنطقة حاليا وأفرزت معها واقعا جعلت المثقف يعيش حالة من التردد والتحوّل. ولهذا السبب لا يعترف الغذامي بمساهمة المثقف في صناعة التحول الذي انتظم المنطقة العربية، وإننا «إذا أردنا أن نتحدث عن هذا التحول لا بد لنا أن نستبعد المثقف من الصورة، لأنه لا يمثل عاملا أساسيا أو عنصرا فعالا بها، وأي إقحام لمصطلح المثقف هنا، سيكون خارج إطار قراءة الحدث، لأن العنوان الأصلي هو سقوط النخبة وبروز الشعب».

هنا نص الحوار مع الغذامي:

* لوحظ في الآونة الأخيرة أن السياسة غلبت على الثقافة والإنتاج الثقافي وتحوّل عدد من المثقفين إلى محللين سياسيين.. برأيك إلى أي حد يمكن أن نصف مثل هذا المسار العام.. هل هو نتاج ثقافة التغيير أم تغيير الثقافة؟

– عبارة ثقافة متغيرة هي الأقرب إلى مفهوم هذا الوضع وهي النقطة الأساسية وليست نتيجة لما سبق ولكن ما سبق أشعلها وأنضجها لأن هناك ظروفا مرت على العالم العربي منذ عقود، وأنضجت لحظة من لحظات الغربة في التغيير، فالذي حدث ليس سياسة كما أنه ليس تاريخا مجردا وإنما هو تحوّل في علاقة الإنسان مع محيطه، إذ كان الإنسان في السابق يميل إلى الاستجابة لمحيطه ويسعى قدر الإمكان للتأقلم معه، غير أن هذه الظروف يبدو أنها بلغت درجة من الحرارة، بحيث أنتجت هذه الرغبة العارمة للتغيير، مع إقراري بأن ذلك له ثمنه، ولكن هذه حقيقة المسألة. إنها لحظة من لحظات التغيير النوعي في علاقة الإنسان مع ظروفه.

* أنت تتحدث عن الإنسان بشكل عام ولكن لو تحدثنا عن المثقف تحديدا.. إلى أي حد كان متجاوبا مع هذا التحوّل، وهل هو صانع أم مستجيب أم متلق، وأين يقف الآن في ظل ما يحدّث من تحول في المنطقة العربية؟

– (مقاطعا) لا.. إذا أردنا أن نتحدث عن هذا التحول لا بد لنا أن نستبعد المثقف من الصورة، لأنه لا يمثل عاملا أساسيا أو عنصرا فعالا بها، وأي إقحام لمصطلح المثقف هنا، سيكون خارج إطار قراءة الحدث، لأن العنوان الأصلي هو سقوط النخبة وبروز الشعب، ولذلك استعادة المثقف مرة أخرى ولو على المستوى الافتراضي والذهني سيضلل التحليل والنظرة، وبالتالي لن نصل إلى شيء، لأن التغير الذي صار حاليا هو تغير مضاد للظروف كلها ومن بينها المثقف بوصفه ظرفا، حيث إنه صار الآن قيمة ظرفية ولم يعد ذا قيمة فاعلة.

* هناك سجال حول إسهام العرب والمسلمين في بناء حضارة العالم من ناحية تقدمية وأمنية ومستقبلية.. كيف تقرأ مثل هذا السجال وهل هذا مفيد لشباب وسائط التواصل اليوم؟

– الإنسان العربي لكي يدخل في هذه الحضارة ويكون فاعلا بها، ومنفعلا معها أو يكون خارجها، هذه كلها تعود إلى شيء واحد فقط، وهو أن تعمل ولذلك مجرد أن يعمل الإنسان فهو يبني حضارة، وفكرة أن يعمل الإنسان العربي إحدى أهم إفرازات مفهوم الربيع العربي، إذ هذا المصطلح جرى تداوله عالميا، وأصبح منتجا رمزيا وذهنيا عربيا، وهذا المنتج مثله مثل أي منتج، إذ لا تنتج السيارة مثلا وتنساها بل تظل تتابعها في كل المراحل منذ تسويقها وتوفير قطع غيارها والضمان عليها إلى ما إلى ذلك، بمعنى أن مصطلح الربيع العربي الذي تحوّل إلى منتج معقد، لا بد من أن نتابعه بصيانته ومعالجته وإعطائه حقوقه بتسويقه على أنفسنا وعلى التاريخ، لأنه يمثل لحظة تحد بما أنه إنتاج. ولذلك إذا أتقنا هذه الصناعة التي تدعى الربيع العربي، فمعنى ذلك أننا دخلنا الحضارة. وإذا فرطنا به وأهدرناه فسنكون مجرد حدث في التاريخ وانتهى الأمر. ولذلك، وفي إجابة سابقة قلت لك، إنه ليس مجرد حدث تاريخي، لأنه لو صار مجرد حدث تاريخي فسيبقى مجرد فصل من فصول كتاب ويوميات التاريخ، وينتهي هنا أمره. أما إذ حولناه وهذا هو حقه علينا فسيصير معنى يمثل الإنسان العربي في هذه المرحلة وهذا ممكن جدا، ذلك أن الذي صنع الربيع العربي بمقدوره العمل على حفظه وصيانته وتحقيقه عمليا وإنجازيا، وكان بالإمكان أن يكون أمام كل الدول التي أنتج فيها ربيع عربي، أمل بأن يكون مستقبلها ربيعا عربيا وليس فقط في العامين الماضيين فقط. أنت كعربي تنتظر هذا المستقبل الذي يكون يانعا ربيعيا غير أن له في حقيقة الأمر ثمنا لأنه ما من أمر مهم في حياة الإنسان يأتي على طبق من ذهب، إذ أن حتى الورد يحمي نفسه بالأشواك على حدتها ومرارة لسعها وحتى الماء لا بد من تصفيته من الكدر لكي نشربه وملابسنا نغسلها من الدرن لنلبسها وهكذا دواليك، فالأفكار والمصطلحات لا بد لنا أن نعاملها كما نعامل كل تلك الحاجيات الضرورية اليومية، بحيث نعتني بها ونجليها لكي تكون صالحة للاستخدام.

* بين متطلبات التغيير الفكري وصناعة المستقبل تبرز الحاجة لإرساء ثقافة تغيير.. ما أهمية العمل على ذلك؟

– أعتقد أن أول المتطلبات يبدأ من صناعة العمل كأن تصنع شيئا مثل الربيع العربي، ولا بد أن تعطيه حقه ليظل ربيعا، وهذه منظومة كبيرة من الشروط الذهنية والعملية والسياسية وشروط التجربة وشروط الوقوع في الأخطاء ثم تصحيح الأخطاء، إذ التجربة العملية لم تنجح في تاريخ العلوم كلها، إلا باستثمارها لأخطائها وعبر تصحيح هذه الأخطاء، فهي منظومة من الأخطاء تنتهي أخيرا إلى استبعاد هذه الأخطاء والوصول إلى صواب، ولذلك لا بد لنا أن نمر عبر منظومة من الأخطاء مع أهمية ألاّ نتركها تكسر ظهورنا وأحلامنا، في ظل ملاحظة أن الناس عندما تشن مظاهرة أو أن شرطيا يقتل متظاهرا في بنغازي مثلا، لا ينبغي التسليم بأن الربيع العربي انتهى لأن هذا هو ثمن التغيير والتغيير الكبير مقابله ثمن كبير، إذ لا بد أن يكون لنا من الحيز ما يجعل الوسط الثقافي والحضاري صبورا وحكيما حتى نصنع من هذا الحدث قيمة، وإلا سينتكس إلى مجرد مناسبة كالتصفيق وهدف يحاول يسجله ناد رياضي من الأندية. علينا أن ننتظر النتيجة النهائية وهي سجال يحتمل الربح والخسارة ولكن من المهم أن نصيب الهدف الذي نرمي إليه.

* في القرن التاسع عشر قد برزت كتابات لمثقفين غربيين منها مقولة الشاعر البريطاني رديارد كيبلنغ الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب».. برأيك هل هذه المقولة تصنيفية وإلى أي تغلّب ثقافة الصراع على ثقافة الحوار؟

– لا أعتقد أن أحدا سيأخذ مقولة الشاعر البريطاني رديارد كيبلنغ الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» مأخذ الجد الآن لأنها عديمة المعنى، إذ أن المعنى الصحيح أن الإنسان في صراع مستمر، فإن لم يصارع عدوه سيصارع نفسه. المسألة ليست أن الغرب يصارع الشرق، إذ أن الشرق يتصارع مع الشرق نفسه، وكذلك الغرب يتصارع مع الغرب، والمنتج الصناعي يتصارع مع المنتج الصناعي. من البداية أشار برتراند راسل إلى ثلاث خصائص تشبه الخلاصة للحضارات، الخاصية الأولى التنافسية والخاصية الثانية طلب المجد، والخاصية الثالثة طلب الشهرة، فالإنسان يبدو غريزيا أنه مدفوع بالعناصر الثلاثة، فهو كائن تنافسي بالضرورة، وهو راغب في المجد حتى على المستوى الشخصي، كما أن عنصر الشهرة، يعطي مفعولا كبيرا لدى الإنسان، لأنه يريد عندما يعمل عملا ما أن يعرف الناس ذلك مثله مثل الرياضي الذي يريد أن يصفق له المشجعون، تماما كما هو مفهوم الجوائز والأوسمة وشبيهاتهما، ولذلك لا نقول: «شمال شرق غرب جنوب» فهذه سهلة جدا، لأن كلا منّا يستطيع أن يذهب في الاتجاه المتقدم ويترك المتخلف وهي معادلة غير صحيحة، أما المعادلة الصحيحة فهي أن الإنسان كفرد هو كائن تنافسي وبالتالي تناحري في الوقت نفسه، فإما أن تحكمه عبارة «أنا أفضل منك أو أنت أفضل مني» أو يتبع أسلوب هابيل وقابيل وأحدهما يقتل الثاني، فيمتد من نقطة بسيطة إلى نقطة قصوى. التاريخ كله كذلك في شتى أنحاء العالم، ولذلك المسألة ليست أن هناك فرقا بين هذا وذاك والفرق ليس عرقيا وليس عقليا وليس بالجينات، إذ أن الفرق بالعمل. وخير مثال على ذلك نمور آسيا وكلهم شرق ومع ذلك صاروا نمورا كما هو الحال في شرق الشرق (الصين واليابان)، والسؤال هل هي تنافس أميركا وأوروبا؟ نحن نعرف أن المنافسة الكبيرة بين كوريا الجنوبية وأميركا في بعض المنتجات وصلت إلى المحاكم والحروب القانونية وحاليا المنافسة الاقتصادية بين الصين وأميركا، فالقضية هي أن تعمل وإن عملت فستجد لك موقعا، ولذلك فالربيع العربي هو منتج إذا لم نعطه حقه سيضيع هذا المنتج وإن خدمناه سيكون منتجا عربيا فعليا ويضعنا في مراكز متقدمة في الثقافة الإنسانية.

*.. ولكن كيف نخدمه؟

– نعطيه حقه ونشتغل حتى يصير ربيعا فعلا، كأن ندخل العملية الانتخابية ونعزز الديمقراطية، وندخل بسياسة اقتصاد فاعلة إذ الشعب العربي ثار ضد الظلم.. فكيف يرفع الظلم عنه؟ هذا لا يكون إلا بسياسات واقتصاديات معرفية ناجحة. هذا ما يعنى به الربيع العربي، فإن لم تتحقق عبره هذه الخطى سيكون مجرد حدث تاريخي وانتهى الأمر.

* يعتقد البعض أن الفكرة الأحادية أدت إلى انشطار إنساني حضاري يواجه الثقافات والحضارات فإما مسار صراع وإما مسار حوار.. كيف تفسر ذلك؟

– لا يوجد حوار في الكون بل هناك صراع، ولذلك دعنا نعود إلى العنوان الأساسي. إن هناك تنافسية، وداخل التنافسية هناك مائة مصطلح، منه ما يمكن حوله أن تحاور أو تصالح أو تهادن أو تناحر أو تقاتل وغيرها. ففي الحقيقة، لا أصل لمقولة الأخلاق الرياضية، بمعنى قبول الهزيمة، إذ أنه لا يوجد رياضي يقبل الهزيمة، ولكن يمكن أن يكون هناك أمل وتصوّر مثاليان، وإنما أن تجد إنسانا يقبل هزيمة، ولو وجد ذلك لكان أمرا عظيما غير أن ذلك من النوادر، وليس هو الذي يفسر حركة الشعوب، حيث إن هناك أفرادا يتسامون سموا عاليا وكبيرا جدا ولكن هؤلاء قلة في كل التاريخ سواء في الشرق أو الغرب. فإذا ذهبت إلى أثينا وأردت أن تتذكر من كان من سكانها فإنك لن تتذكر إلا أرسطو وأفلاطون فيما ذهب الباقون إلى مثواهم. عموما هناك نوادر ولكن ليست النمط لكل شيء. ومع إيماننا بالحوار إلا أن الواقع يقول بخلاف ذلك، فالناس يتحاورون طالما كانوا في حالة اطمئنان اقتصاديا ومعيشيا ونفسيا، ولكن أي خلل ما بين منظومة ومنظومة يحوّل الحوار إلى الصراع.

* الفلاسفة العرب المسلمون- كابن خلدون مثلا- حين نظروا إلى الفروقات بين الشعوب وجدوا أنّها خصائص ناتجة من ظروف معيشية وبيئية وليست جوهرا إنسانيا..

– (مقاطعا).. هذه حقيقة وكان ذلك واضحا بعد دخول العرب الأندلس والغرب وأميركا عموما، حيث كان هناك اعتقاد لدى البعض منهم بأنهم يمكنهم تغليب الثقافة العربية على غيرها من الثقافات، غير أن الطفرة التي مرت بها أوروبا وأميركا غلبت ثقافات أخرى، وعملت جديا على ذلك، إذ غلبت عليها الثقافة اليهودية والثقافة المسيحية، أي المتكئة على الدين.. وأعتقد أن ذلك كان نتاجا طبيعيا لإفرازات الظروف التي عاشتها الشعوب آنذاك وهي بالفعل ظروف بيئية ومعيشية وليست جوهرا إنسانيا كما ذكرت.

الرياض: فتح الرحمن يوسف

المصدر: الشرق الأوسط