المحيطات.. خبايا تسرد تاريخ التدمير البشري

أخبار

في عام 1738 تعرضت سفينة «ليوسدن» التابعة لشركة الهند الغربية الهولندية، لمحنة قبالة سواحل سورينام، فأمر كابتن السفينة من الطاقم وضع حمولتها في العنبر وإغلاقه بالمسامير. البضاعة لم تكن صناديق وبراميل، ولا حتى ثروة حيوانية، بل 680 امرأة ورجلاً وطفلاً متجهين إلى أسواق العبيد في الأميركتين. ويقبع الحطام تحت الأمواج أثر مخفي لولادة الرأسمالية، ولقوة المحيط في نقل وتحطيم وإغراق واحتواء وإعادة تسليم ما يقبع في قعره.

وفي حادثة ضمن سلسلة طويلة من صب السموم في البحر، بادرت السفينة البريطانية التجارية «هالسينس» في يوليو 1964، بتفريغ حزم من النفايات المشعة في مواقع عدة داخل خليج بيسكاي، لكن قبل أن توشك على الانتهاء من مهمتها، بدأت المواد المشعة، كزجاجات اليورانيوم «يو-235»، تطفو على سطح الماء، هذه الحادثة ستدفع ببريطانيا إلى التشكيك بممارساتها تلك، لكن أطناناً من النفايات النووية كان قد تم تفريغها في البحر من قبل، ولا تزال قصصها لغزاً.

القصتان أعلاه مثال عن الطريقة التي تسرد فيها المحيطات التاريخ.

ويجد المفكرون في الحقل الثقافي إمكانية هائلة في فكرة أن المحيطات تحفظ سجلاً عن التاريخ ويدعون إلى تسجيله، فيما يوفر المحيط، كسجل للتاريخ، بالنسبة للعلماء، المجال لدراسة المحيطات بشكل عالمي شامل. ويبرز من صدى هذين التفكيرين، ما يمكن أن يطلق عليه أرشيف المحيطات: سجل الحياة على الأرض، كما تشكل ورشح من خلال الديناميات البحرية، والذي يتوفر لنا اليوم بشكل مجزأ وغير قابل للتنبؤ. ويكمن التحدي في البناء على هذا الصدى، والتشكيك به، في سبيل إعادة التفكير بالعلاقة بين التاريخ الطبيعي للكوكب من جهة، والتأثير المدمر غير المتكافئ للتجربة الإنسانية.

عصر التأثير الإنساني

فيما يخص الأرشيف التقليدي، فإنه يعمل على تأطير تاريخ المحيطات وعزله، بتحديد فترته وتوثيق الماضي. ويكتب الفيلسوف جاك دريدا أن هذه «الطريقة غير الطبيعية» في ترسيم التاريخ يصعب الدفاع عنها خلال «فترة العصر الجيولوجي حيث النشاط الإنساني هو المؤثر على المناخ والبيئة»، وعندما نكون واعين باستمرار أننا أصلاً نعيش فترة تلت الثورة الصناعية والقنبلة النووية. وبناءً على ذلك، فإن مفهوم «عصر التأثير الإنساني» يمكن أن يكون مفيداً، لأنه يبشر بنهاية التمييز بين تاريخ البشر وتاريخ الطبيعة، ويشدد على الطرق التي يمتد فيها ماضي الكوكب إلى حاضره ومستقبله.

لفترة طويلة من تاريخ الغرب، كان المحيط يعامل كفراغ كبير من قبل العلماء والصناعيين والحكومات، بمعنى أنه يمكن صب النفايات في البحر، سواء مياه الصرف الصحي، أو المنتجات المشعة، أو مخلفات الشركات الصناعية، بحيث لا تظهر مجدداً، فالمحيط يمكنه أن يطهر الإنسانية، ويفصل البشر عن تأثيرات احتراق الكربون أو التلوث أو التجارب النووية.

وهم خطير

لكن تلك النظرة تكشفت عن كونها وهماً خطيراً. فالعواصف الهوجاء، وارتفاع منسوب البحار، وموت الكائنات العازلة للكربون، تظهر لنا الدور الحيوي للمحيط في تنظيم المناخ وتعزيز الحياة. ويجري تذكيرنا باستمرار بحيوية الموارد البيولوجية والجيولوجية للاقتصاد العالمي، وبأن 90% من الشحن يجري عبر الطرق البحرية. كما يذكرنا المحيط باستمرار أن ما يجري صبه في مياهه، سيغوص لبعض الوقت، لكنه سينتشر ويظهر لاحقاً، وليس دائماً بشكل يمكن التنبؤ به.

يقدم المفكر الكاريبي إدوار غليسون وصفاً مؤرقاً عن الممرات البحرية والعبودية. لكن بين عمل يهدف أساساً إلى التعامل مع إرث تجارة الرقيق، وعمل آخر يصف المحيط الهادي كمكان للصلات القوية بين شعوب السكان الأصليين، يوجد هنا تاريخان بديلان. ومن ناحية العلوم، فإنه بحلول سبعينات القرن الماضي، بدأت الأقمار الصناعية والنماذج الحاسوبية وتقنيات الاتصالات توفر ليس فقط بصريات جديدة، لكن أيضاً القدرة على ابتداع صور أكثر اكتمالاً عن دوران المحيطات والتداخل الجوي البحري وغيرها من الخصائص، وفي تخزين ومشاركة تلك البيانات. ولاحقاً، فإن جيلاً من تقنيات الاستشعار غيرت علم المحيطات.

التغيير المناخي

وقد جعل التغيير المناخي بحوث المحيطات أكثر إلحاحاً، لتوثيق ظاهرة الاحتباس الحراري والتنبؤ بها، فتعلم العلماء عن إمكانية المحيطات للحركة والذاكرة، وقدرتها على تخزين ونشر الحرارة والطاقة والكربون وغيرها من المواد والخصائص. لكن هشاشة المحيطات تستمر في إثارة القلق. فقد تبددت الآمال في حل نهائي للنفايات النووية في البحر عندما طفت على السطح في مواقع متباينة، كما أدى انهيار مختلف مصائد الأسماك نتيجة للصيد الجائر واستنزاف المواد الغذائية إلى تبديد أحلام إطعام أعداد متزايدة من السكان بالبروتينات البحرية. ويبقى الغموض يكتنف أرشيف المحيطات، بيد أن الإقرار بأنه بإمكاننا أن نتعلم المزيد عنه، يبقى قراراً سياسياً وأخلاقياً.

وعلى عكس الأرشيف التقليدي، فإن أرشيف المحيطات أكثر غرابة بكثير. يأخذ المحيط ما يسلم إليه، لكنه يهدد دائماً بتوريد أشياء غريبة. حتى عندما يجري عزل المحيط عن البشر، فإن تقلبات الطقس، وفقاعات غاز الميثان، و«قطرات» من المياه الحارة تشير إلى تحول في الكوكب. تحت الأمواج، فإن كائنات محبة للبلاستيك، وشعب مرجانية محتضرة، وقناديل بحر معمرة تحدث إرباكاً عند الخط الفاصل بين الطبيعي والمخادع، كما بين الحياة والموت والمواد الهامدة. لا يمكننا احتساب كل شيء داخل هذا الأرشيف، ناهيك عن متى وأين وكيف سيصعد من الأعماق.

ويتعين علينا أن ندرك أننا جميعاً مواد لأرشيف المحيطات: أجسادنا وأفعالنا وبنانا التحتية. قوى المحيط سوف تستمر في التأثير فينا، وتقدم لنا مخلفاتنا بطرق تتجاوز نوايانا بالتأكيد.

أرشيف البحار يوثق المواقف الإنسانية الأكثر عاراً

غرق الألوف في رحلة عبور البحر المتوسط عند أبواب أوروبا، وقد شاهد العالم جثث الغرقى على الشاطئ دون أن يفتح أبوابه. وفي الصورة عمل للفنان الهندي سودارسان باتنايك عن الطفل الغريق ألان الكردي مكتوب عليها «الإنسانية مطروحة على الشاطئ، العار العار».

ذاكرة المحيطات في أجساد البشر وثقافتهم

يمكن قراءة أرشيف المحيطات في أجساد من يستهلك البروتينات البحرية، وعبر المعادن الثقيلة التي تسري وسط التراكم الأحيائي، وفي مخلفات الجفاف والفيضانات وخسارة الأرواح والممتلكات، وفي سلاسل الجينات، وعبر الفنون والطهو والعادات المتبادلة بين أحواض المحيطات.

مفاعل فوكوشيما

بعد ست سنوات على تعرض مفاعل فوكوشيما للطاقة النووية باليابان للانهيار، سُجلت مستويات مرتفعة للغاية من الإشعاعات داخل المفاعل، مما يلقي الضوء على حجم المهمة الملقاة على كاهل العمال لوقف تشغيل المحطة، والتي قد تستغرق أربعة عقود.

منصة ديب واتر هوريزون

أدى تسرب النفط في خليج المكسيك في أبريل 2010 إلى إطلاق ما يقدر بنحو 210 ملايين غالون من النفط في المحيط، وقد تدفق النفط من منصة ديب واتر هوريزون لأكثر من 85 يوماً، وغطى 572 ميلاً من الشاطئ، وأهدر حياة ألوف الطيور والكائنات البحرية.

أضرار طويلة الأمد

محيطات العالم إما تعاني من الصيد الجائر أو التلوث. ويبدل التغيير المناخي إيكولوجيات البحار بزيادة حموضة المحيطات، ويضر الارتفاع في حرارة المياه بالقشريات والشعب المرجانية والموارد البحرية. كما تعمل الأسمدة ومياه المجاري والصرف الزراعي التي تحوي كميات كبيرة من النيتروجين والفوسفور على توليد مئات من المناطق الميتة حول العالم. ومن دون حماية أفضل، يحذر العلماء من أن نوعية المياه ومخزون الأسماك والبيئة البحرية ستعاني من أضرار طويلة الأمد.

سفينة العبيد

تصور تحفة «سفينة العبيد» 1840 للرسام جيه ترنر العبيد يتخبطون وسط البحر الهائج.

وهي وصف مؤرق للممرات البحرية التي تربط الشتات الأفريقي بكرات وسلاسل معدنية، هي مخلفات العبيد الذين تم رميهم في البحر. وتؤكد تخيلات مماثلة قدرة البحر على التذكر.

المصدر: الخليج