شكراً محمد بن زايد

آراء

لا نعرف طعم الموت وألم الفراق إلا إذا مسّ حبيباً أو قريباً عندها ندرك معنى قول الله تعالى: (فأصابتكم مصيبة الموت)، فخالق الموت سماه مصيبة (ومن أصدق من الله حديثاً)، وعندها ندرك أن كل خلافاتنا وصراعاتنا وتنافساتنا الشخصية وعتاباتنا وسخطاتنا محض ضياع للعمر وهدر للوقت فالعمر أقصر من أن نتدابر وأعز من أن نهدره بما لا ينفع..

أتعلم أن من أعظم مواقفنا التي تُرضي مولانا جل في علاه مواساة قلبٍ مكلومٍ وجبر خاطرٍ مكسورٍ! فقد رجع النبي، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، من غزوة أحد يطوف على بيوت الشهداء والجرحى يُصبّر هذا ويواسي هذا ويدعو لهذا حتى وصل إلى بيت عمّه حمزة فما وجد به صوت بكاء ولا أنين جريح فقال: كل الناس لها بواكي إلا حمزة فلا بواكي له! فالبكاء مواساة وتفريغ لآلام القلوب الموجوعة والأفئدة المفطورة.. المواساة بكلمة.. بنظرة.. بدعاء.. بزيارة.. المواساة بما تحب أن يواسيك الناس به لو كنت مكانهم فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.. ولذا كان العزاء سُنّة.

أقول هذا وقد ذقت مرارة فقدان أخٍ أصغر مني سنّاً، فالموت ليس بأقدميات الميلاد! أخٍ صحيح الجسد فالموت ليس للمرضى.. (هارون أخي) جلس على طاولته يُكمل بحثاً له في تفسير القرآن الكريم ذلك العلم الذي عشقه وأتقنه ودرّسه لطلابه في جامعته.. وإلى جواره ولده (جعفر) شابٌ في مقتبل العمر يتوقد فطنة وذكاء يلتقط من والده كلمة خير أو توجيه أب.. وفجأة يقول لولده أدعُ لي أمك وهي طبيبة يشكو لها ضيقاً في صدره فناولته حبة إسبرين وكأس ماء.. ثم ينظر للأعلى قائلاً بهدوء وسكينة وكأنه يدعو أو يرجو: يا الله يا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم يُلقي برأسه على بحثه وكتبه مفارقاً الدنيا إلى أول منازل الآخرة!!

ليقع الخبر صاعقة على الأهل والإخوة والولد لا بل وعلى كل البلد.. أم ثكلى وأطفال مازالوا في مدارسهم وإخوة يرون في أخيهم حكمة ووسامة ومحبة.. يفارقهم في لحظة واحدة!

ليبدأ الناس بالتوافد من أماكن شتى معزّين مأجورين تسوقهم المحبة ويحدوهم الإجلال لعالِمٍ مفقود.. وسط هذا الموج المتلاطم من المشاعر وكرام المعزين رنّ هاتفي المحمول برقم من دولة الإمارات العربية المتحدة ظننته صديقاً يُعزي أو معرفةً يواسي! فأجبت هاتفي وإذا به يُسلّم بصوت ملؤه الوقار والثقة والسكينة قائلاً: أنا محمد بن زايد.. عظم الله أجركم ورحم ميتكم.. سامحني تأخرت عليكم!!

دار الحديث مليئاً بطيب المواساة ولطيف الكلام من التوصية بالصبر وشد الحيل ومضاء العزيمة فهذا حال الدنيا.. يُحملني أمانة التعزية للوالدة والإخوة والعشيرة!

عندها أدركت أن الألقاب لها رجالها الذين يترجمونها أفعالاً ورثوها كابراً عن كابرٍ، ورضعوها مع نشأتهم الأولى من حرائر كريمات يُتقنّ صناعة الرجال وتنشئة القادة.. وأدركت أن الألقاب تأتي من البيوت.. لا بحكم الوظيفة والمنصب.. وأنها تنشأ مع الإنسان في نعومة أظْفاره فلا تُمنح جُزافاً.. فقد كان المعزّي اسماً على مسمى «سمو الشيخ».. ذاته «سمو الشيخ» كان قد منح الشيخ نوح من قبل وسام الاستقلال من الطبقة الأولى تقديراً لعلمه وعمله بعد أن أمضى ثلاث سنين مفتياً بدولة الإمارات..

ذاته «سمو الشيخ» يُنشئ جامعة باسمه تُعلم التفسير والفقه والحديث والخطابة والسيرة النبوية والعلوم الإنسانية والإسلامية ويجعل على مجلس أمنائها قوي أمين وعلى إدارتها أكفياء أنقياء ليُعالج الصورة المشوهة والمشوشة عن الدّين ويستقطب لها العلماء الأكفياء ليؤدوا الأمانة النبوية الشريفة!

ذاته «سمو الشيخ» الذي حفظ الناس منه عبارة صاغها وهو يرى القلق والحيرة تعلو الوجوه في ذروة «كورونا» ومصائبها فيقول لهم بلهجتهم التي ألفوها «لا تشيلون هم»!

ذاته «سمو الشيخ» الذي جعل بلده الأول عالمياً لأربع سنين متتالية في العمل الخيري والمساعدات الإنسانية!

الموت مدرسة نتعلم منها ونتعلم لها.. لكن المحظوظ من يجد في مصيبة الموت جذعاً يتكئ عليه!

أما أنا فقد وجدت لا جذعاً بل طوداً شامخاً.. فآويت فيه إلى ركنٍ شديد.. عرف الناس ذلك الطود بلقب «سمو الشيخ».

«سمو الشيخ» تشريفك لي بسماع صوتك لأنقل كلماتك وعزائك لأهلي وعشيرتي دَين لا يُسدّ ومعروف لا يُردّ وأنا أحتسب لك على الله سداده..

أما أنا، فأدعو الله أن يحفظك ويحفظ الإمارات وقيادتها وأهلها وكل مُحبّ لها.

شكر الله سعيكم صاحب السمو.

محمد نوح القضاة.. وزير الأوقاف والشباب الأردني السابق، عضو هيئة تدريس في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

المصدر: الاتحاد