ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

مدن احتضنتهم فخلدوها

آراء

من بين مدن وقرى ومسقط رؤوس الكتّاب والشعراء والفنانين الكثيرة التي زرتها في العالم، متقصداً الزيارة، ومتأسفاً إن لم تتم، قرية «بْشِرّي» في شمال لبنان على جبل «المكمل»، ووادي «قاديشا» أو القديسين، مسقط رأس شاعرها وفنانها «جبران خليل جبران»، قرية يحفها الهدوء والطمأنينة الدينية، فهي بلدة خمسة من القديسين، وفيها غابة «أرز الرب»، تتعمم بالثلج شتاء، فيضفي عليها وقار المؤمنين، زرت مدينة طنجة العالية، تقصياً لأثر ابنها الرحالة «ابن بطوطة» وقبره الذي يتخذ ركناً قصيّاً من درب بيوت الناس البسطاء، وسوقهم الشعبي، وفي زنقة ابن بطوطة يرقد ذلك الرحالة بين ضجيج ذلك الحي الفقير، ضريحه مهمل، وكل ما حوله يسوده الازدراء، وعدم الاهتمام والنظافة، كما زرت في مدينة توزر التونسية بيت الشاعر «أبو القاسم الشابي» الذي هدم مؤخراً بعد تنازع الورثة عليه، وعدم تدخل الحكومة في الحفاظ على إرث جميل كان حرّياً به أن يتحول إلى متحف، بدلاً من ذلك المتحف الهزيل الذي له، والذي فيه ما تبقى من أشيائه ومخطوطاته وأثاثه، غير أن الأمور في المدن الأوروبية التي تضم بيوت كتّابها وأدبائها وفنانيها مختلفة ومقدرة، حيث تجد البيوت مصونة، ومحافظاً على طابعها وحتى ألوانها وأثاثها، وتجلى لي هذا حين زرت بيت شاعر ألمانيا الكبير «غوته» في فرانكفورت، والذي بدا لي أنه أشبه بمتحف مصغر فيه كل ما يخص هذا الرائع الكبير، وقس عليه بيوت الفنانين من رسامين وموسيقيين في فيينا وأمستردام ومدن فرنسا ومدن بريطانيا، في الدول الأوروبية لن تجد معضلة في ضياع وتشتت إرث مبدعيها، فكل شيء منه لديه قيمة، ويحظى بتقدير، وغالباً ما يكون مسقط رؤوسهم أماكن سياحية، ومتحفاً خاصاً، فمدينة صغيرة مثل «ستراتفورد» شهرتها لأن شكسبير منها، وتفاصيلها في كتاباته، اليوم يقصدها السياح من كل العالم، حيث يزيدون على خمسة ملايين سائح كل عام، تذهب إلى مدينة «سالزبورغ» في فيينا فتجد منزل الموسيقار «موزارت»، تكون في أمستردام فتجد منزل الرسام «رامبرانت»، وفنانها المجنون بالأصفر «فان غوخ».

هكذا يعيش الكثير من العلماء والعباقرة والمبدعين من شعراء وفنانين ورسامين وموسيقيين حياة الضنك في الدنيا، ويفرّون من مدينة إلى أخرى طلباً للسكينة، وتبليغ علمهم أو طلباً للحرية ومساحة للإبداع، وإعداد تلاميذ ومريدين من بعدهم، لأنه غالباً ما تتنكر لهم بلدانهم، ومسقط رؤوسهم في الدنيا.

ولكم تحزنني قصة ذلك الرسام الذي يذرع شوارع مدينته، وحين يحلّ المساء الحزين بالخمر، يتوسد قاعدة تمثاله لينام متعباً من جحود المدينة لجثته، بينما هي تحتفي بكل تلك الأحجار الرخامية التي كان من الممكن أن تصنع له بها حديقة كبيرة، وبيتاً صغيراً، ليشعر مرة بمعنى أن يكون لغرفة نومه سقفٌ مضيء، ويفتح عينيه على الأخضر في الحياة ومع ذلك يظل هؤلاء الفنانون والكتّاب مصدر فخر بَعد مماتهم، ويخلدون مدنهم التي ربما تحدت إحداها أحدهم!

المصدر: الاتحاد