رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

مسألة الأقليات واستمرار الدولة الوطنية

آراء

لا يحب العرب العروبيون ولا الإسلاميون مصطلح الشرق الأوسط، وقد عبروا عن ذلك بشتى الوسائل منذ الربع الأول من القرن العشرين؛ فالمصطلح يستبدل بالتاريخ والانتماء والأكثرية المساحة الجغرافية أو الموقع الجغرافي من أوروبا؛ ما بين أدنى وأوسط وأقصى.

وإذا كان الأميركيون قد فضلوا هذا المصطلح وتداولوه بعد الحرب الأولى؛ فإن البريطانيين ظلوا يستخدمون مصطلح الهلال الخصيب، وهو المناطق الخصبة أو الزراعية الواقعة بين البحر المتوسط والصحراء، التي تغص بالأقليات منذ آلاف السنين، ومنهم اليهود!

وقد كان العرب القوميون منذ أيام الدولة العثمانية يتحدثون عن المشرق العربي في وجه نزعة التتريك، بحيث يشمل ذلك المناطق ذات اللسان العربي، أو ما كان يعرف ببلاد الشام، أي المناطق الواقعة بشمال الجزيرة العربية، ثم اكتسب ذلك المصطلح، أي «المشرق العربي»، قوة بعد ظهور مشروعات دول الأقليات والإثنيات في المنطقة مع غياب دولة بني عثمان. فقد تفاوض المنتصرون في الحرب الأولى بمؤتمر الصلح بباريس عام 1920، وقبل ذلك مع سايكس – بيكو، على دولة لليهود، ودولة للمسيحيين، ودول للأرمن والأكراد. وتحققت أولا دولة المسيحيين بجبل لبنان، ثم دولة اليهود بفلسطين، وما تحققت الدولة الأرمنية؛ لأن الأتراك هجروا أكثرية الأرمن من المناطق التاريخية التي كانوا ينتشرون فيها ضمن تركيا العثمانية.

أما دولة الأكراد فلم تتحقق لاعتراض تركيا وإيران معا عليها.

وما أظهر العرب ممانعة قوية في وجه التقسيمات الاستعمارية، رغم ظهور الفكر القومي القائل بالهوية العربية للمنطقة، والانتماء العربي الشامل؛ لغة وأرضا ودينا؛ ولذا فقد أقام الفرنسيون (ومن بنات أفكارهم) أربع دويلات بسوريا التي كانت تحت انتدابهم في عشرينات القرن العشرين، وهي دويلات العلويين والدروز، وبقي للسنة كيانان بدمشق وحلب. وما أمكن للدويلتين العلوية والدرزية أن تستقرا ليس بسبب «هجمات» الأكثرية العربية السنية؛ بل للتناقضات العشائرية والطبقية ضمن الدويلتين.

وعلى أي حال، وبعد قيام الدولة الصهيونية في فلسطين؛ فإن سوريا ظلت شديدة الاضطراب، إلى أن انحسمت مسألة الانتماء فيها بالاتحاد مع مصر عام 1958، وقد كانت تلك أكبر الضربات التي نزلت بوعي الأقليات الإثنية والدينية بالانفصال؛ إلى حد إقبال السلطة المسيحية بلبنان للاعتصام بمصر أو دولة الوحدة أيام فؤاد شهاب في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، بدلا من الارتكان إلى تحالفات الأقليات أو حماية أقلية قوية أو كبرى (مثل إسرائيل) للأقليات الأخرى.

ولننتبه إلى أن الانقلاب على الوحدة مع مصر عام 1961، تلته مباشرة محاولة من جانب «القوميين السوريين» في لبنان، نصرة لفكرة الانفصال عن «العروبة» بالخلفيات الثقافية والإثنية المفترضة في الجغرافيا والتاريخ، شأن الكيان الصهيوني. وبدأ العمل بوعي للانفصال عن «العروبة الإسلامية» بعد انقلاب 8 مارس (آذار) عام 1963، الذي سيطر فيه البعثيون العروبيون، المعادون بالدرجة الأولى لعروبة جمال عبد الناصر، أي لعروبة الأكثرية العربية السنية.

وبعد تعملات اتخذت صبغة راديكالية، استقر الوعي للانفصال عن عروبة الأكثرية، بهزيمة مصر وانحسار امتداداتها عام 1967، ثم وفاة جمال عبد الناصر 1970.

وهكذا صار الشرط الخفي لاستمرار وحدة سوريا أن يحكمها رئيس غير سني، وأن يتولى وظائف في الإقليم معادية للمشروع الوحدوي بالمنطقة، فيصبح الأسد مسؤولا عن قضية الأكثرية العربية (تحرير فلسطين)، وعن حماية الأقليات وإعزازها وتسكينها (ومن العلويين إلى المسيحيين فإلى الأكراد والشيعة)! وقد بدا ذلك واضحا في استماتة الأسد للسيطرة على المقاومة الفلسطينية بحجة أنه يملك استراتيجية أفضل للتحرير، واستماتته في مصارعة صدام حسين في العراق بحجة أنه الأولى بحماية الفكرة العربية بعد انكفاء مصر نهائيا بالصلح مع إسرائيل. فبعد عام 1973 ما سعى الأسد أبدا لتحرير الجولان، كما لم يسع ابنه بشار بعد وفاة الأب عام 2000. وخلال تلك المدة الطويلة أنجز مذابح ضد الأكثرية في سوريا ولبنان وفلسطين، ودخل في تحالفات مع إيران. وبما أنه قاتل عام 1990 مع الولايات المتحدة لتحرير الكويت، فإن الولايات المتحدة ورغم مناكفاتها معه ومع ابنه ما سعت إلا «لتغيير سلوكه» وليس لتغيير نظامه. كما أنه أو أنهما ظلا على تحالف مع روسيا في عهديها السوفياتي والاتحادي.

وتحل هذه الأيام الذكرى العاشرة للدخول الأميركي إلى بغداد في أبريل (نيسان) عام 2003. وقد كانت تلك الحرب هي الهزة الرابعة للإقليم في تاريخ مشروعات الأقليات بمنطقة «الشرق الأوسط» وليس المشرق العربي.

كانت الهزة الأولى في الحرب الأولى التي انكفأت فيها تركيا عن تقرير مصائر المنطقة. وكانت الهزة الثانية هي قيام إسرائيل على أرض فلسطين. وكانت الهزة الثالثة هي انفصال سوريا نهائيا عن مصر وعن المشروع العربي على يد ضباط من الأقليات. وكانت الهزة الرابعة هي الغزو الأميركي للعراق بعد إنهاكه عام 2003، وهي الهزة التي أيقظت خصمين آخرين لعروبة الإقليم: الأكراد وإيران؛ فقد تمتع الأكراد في العراق بمنطقة حكم ذاتي منذ عام 1992، وبعد عام 2003 صار لديهم شبه دولة أيقظت مطامح كردية أيضا في تركيا وإيران وسوريا. وما اقتنعت إيران (بمعاونة الولايات المتحدة) بالسيطرة على مصائر العراق، بل عملت على تغيير هوية المنطقة العربية في بلاد الشام عن طريق التشيعين السياسي والمذهبي، وفي سوريا ولبنان وغزة.

وقد كنا نقول تعزيا أو تفلسفا إن مشروع إسرائيل من الفرات إلى النيل مستحيل، لأنه لا يوجد يهود لحمل هذا المشروع في هذه المساحة الشاسعة. وقد قال بعضنا الشيء نفسه بالنسبة لإيران، فالشيعة غير موجودين بسوريا، وغير موجودين بفلسطين، وقلة بلبنان. ولدى كثير منهم بسائر الإقليم حرص على عروبتهم. أما الواقع فيقول إن الكثرة السكانية ليست العامل الأوحد، وأحيانا ليس الأقوى في تحديد الهوية والانتماء؛ فالكيان الكردي بالعراق تنشئه أميركا وإسرائيل، وما عادت تركيا تعترض عليه، ولا تعتقد إيران أنه يمكن أن يتهدد وحدتها الوطنية.

والمهم بالنسبة لإيران وإسرائيل ليس نقل الأكثرية من سوريا، بل إلغاء الهوية، ولا مانع من الدخول في مشروعات تقسيمية.

فبعد غزو العراق وتغيير هويته بالتقسيم والغلبة، تتصاعد المشروعات لتقسيمات أقلوية في شكل فيدراليات في سوريا ولبنان، وتتشارك إسرائيل وإيران وتركيا عاجلا أو آجلا في أداء وظيفة حماية الأقليات في هذين البلدين، وبحجتين: الأمن والاستقرار، وصون حقوق وحياة الأقليات في وجه «الأكثرية» التي لا تعود أكثرية بعد كل هذه التشطيبات بالدم والأرض!

أين صارت أو تصير الدولة الوطنية الجامعة؟ كانت كريستين أمان بور تجادل كنعان مكية في الـ«CNN» بشأن العراق وسوريا. فكنعان الذي كان مع غزو العراق وهو الآن ضده، يحث على التدخل الأميركي في سوريا لإنهاء سفك الدم. وتتفلسف عليه أمان بور بالقول: لكنك بالنسبة للعراق كنت تقدم الديمقراطية على الوحدة والدولة الوطنية، وأنت الآن ترى أن الدولة الوطنية زالت في العراق، وأن الديمقراطية لم تتحقق، فكيف تغامر بالحث على التدخل في سوريا فيحدث الأمران فيها أيضا؟! لكن مكية ظل مهموما بإنهاء سفك الدم بأي سبيل.

ما كانت هناك دولة وطنية في سوريا، بل سلطة طغيان وتطييف وأقليات. وهذه هي عظمة الثورة السورية التي اخترقت كل المستحيلات رغم هول المذابح، والعمل الأميركي والروسي والإسرائيلي والإيراني على التشويه والتحطيم والشرذمة والتطييف وإلغاء المعنى والهدف.

وبقاء أو عودة المشرق العربي رهن بانتصار هذه الثورة، أو لا نرى عربا أو عربية أو عروبة بالإقليم بعد اليوم!

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط