رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

اضطراب مصري… بلا مستقر

آراء

ما كنتُ أعلم أنه إذا تأخر رئيس الوزراء، أو رئيس الجمهورية في إنفاذ حكمٍ قضائي، فإنه يمكن للمحكمة التي أصدرت الحكم الأول معاقبته، أو معاقبتهما بالحبس والغرامة! لقد حدث ذلك بإحدى المحاكم المصرية قبل ثلاثة أيام. ولو أنّ ذلك حدث قبل سنة أو أكثر لعمدْتُ إلى كتابة مقالة كالعادة في عظَمة التجربة القضائية المصرية، وأن مصر (ورغم الثورة) لا يزال يسود فيها حكم القانون! لكني ومنذ عدة أشهُر، وبعد أن صارع رئيس الجمهورية المصرية المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى وعطّل قراراتهما، ثم انصرفت المحكمة وانصرف نادي القُضاة لمصارعة الرئيس، وعمد «حازمون» لمحاصرة المحكمة الدستورية لمنع القضاة من الدخول إليها خشية أن يُبطلوا مجلس الشورى، بعد أن أبطلوا البرلمان… منذ ذلك الحين ما عدتُ آبهُ لما يقوله القضاء المصري ولا بما يقال عنه! فالرئاسة المصرية تعتبر القُضاة أو بعضهم من بقايا العهد السابق، والقُضاةُ يعتبرون الرئيس المصري المنتخَب كادراً من كوادر «الإخوان» لا ينبغي الخضوع له. والرئيس يقول إنه كان مضطراً للتصدي للمجلس العسكري وللمحكمة الدستورية لاستعادة صلاحياته التي أتاحها له الدستور، ولأن هذين الطرفين بالذات أرادا منعه من الحكم والتقدير!

بيد أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد من تبادل الإبعاد والاستبعاد. بل إن الصراع لا يدور فقط بين الرئاسة و«الإخوان» من جهة، ومؤسستي القضاء والجيش من جهة ثانية، فهناك أيضاً المعارضة شبه الرسمية والمتمثلة بـ«جبهة الإنقاذ»، وعلى مقربة منها يقف حزب «النور» السلفي الذي مثّل معظم السلفيين القائلين بالتدخل في الشأن العام لنشر حكم الكتاب والسنة. وهناك أيضاً جبهة أُخرى جزء منها ظاهر، والآخَر مستتر وهي تشمل المتضررين من زوال نظام «مبارك». وتبدو «قمة» الجليد الخاصة بجبهة مبارك في التجمعات التضامنية التي تقام للرئيس أيام جلسات المحاكمة. لكن الذي يتحدث إلى المصريين يعرف أنّ جبهة مبارك الذي حكم ثلاثين سنة هي أكثر اتّساعاً، وتشمل فئات من رجال الأعمال وضباط الجيش والشرطة والأمن والاستخبارات، وأطياف من الطبقة الوسطى ممن يريدون الهدوء والاستقرار، وعودة الحياة العادية اليومية وإنْ مليئةً بالزحام والعقبات ووجوه النكد الأُخرى!

على أن المشكلة أو المشكلات بين السلطات الجديدة والفئات المذكورة سابقاً، شيء، وعلائق السلطة الإخوانية مع الإعلام شيء آخر. فكل وسائل الاتصال الشبابية هائجة ضد «الإخوان»، وقسم كبير من الجمهور صار عالق العقل والعينين بالفضائيات الخاصة، وبعض الصحف الشديدة المعارضة. لقد كانت هناك في زمن مبارك فضائيات وصحف معارِضة، وبعضها من خارج مصر، وكانت ضد التوريث والفساد، لكنها لم تعرف حالات العنف والعنف المضادّ التي عرفتها في زمن «الإخوان»! فحتى الفضائيات التي تملكها الدولة تجد نفسها مضطرةً لعرض المشهد، أو المشاهد الأُخرى حتّى يظل لها مستمعون أو مشاهدون! ويريد بعض المراقبين أن يرى في ذلك كلّه ازدهاراً أو استمتاعاً ملهوفاً بالحريات الجديدة. لكن البعض الآخر يعتبر ذلك كله جزءاً من «المؤامرة» الجارية على «الإخوان» وحكمهم!

ولنستعد المشهد بما في ذلك محرَّماته، لكي نختبر قصة «المؤامرة» هذه، فنتلمس اتجاهات الأحداث والوقائع، وإمكانيات التهدئة للخروج من المأزق. وفي البداية ينطرح السؤال: لماذا تفاقم هذا الاضطراب في المشهد المصري، بعد انتظام مقبول استمرّ لنحو عام من الزمان؟ هناك إجابات متنوعة قد يكون من الملائم الجمع بينها بحيث تتساند وتتكامل، وهي: وصول «الإخوان» للسلطة رئاسةً واشتراعاً- وإيثار «الإخوان» الانفراد بجوهر السلطات وعدم مراعاة الآخرين- وإخراج الجيش والأجهزة الأُخرى من المشهد السياسي- وعزل الشباب والأقباط الذين سيطروا في الأيام الأُولى للثورة- وتفاقم الملفّات الاقتصادية والاجتماعية لدى الفئات الأشدّ حاجة- وتزايد ردّات الفعل من جانب رجال الأعمال وضباط الأمن والاستخبارات المتضررين من زوال حكم «مبارك»- والتدخلات المتناقضة من جهات إقليمية ودولية لنُصرة هذا الفريق أو ذاك. وبالطبع، فإن هذه العوامل ليست على القدر ذاته من الأهمية والتأثير. إنما المدخل الآخرُ بعد أن نجمع هذه «العوامل» معاً هو إلقاء الضوء على الأحداث الأكثر تفجراً في الأشهُر الأخيرة رجاء تبيُّن الدلالات والمآلات، وسأنتقي من بينها ثلاثة مشاهـد: الاضطـراب الصاعق في مدن القناة -والاضطرابات بين الأقباط والمتشددين- والتجاذُبات بشأن المساعدات والقروض والملفات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية. فالاضطرابات في مدن القناة، والتي استمرت أسابيع وخلّفت خراباً هائلاً وعشرات القتلى ومئات الجرحى، ما كانت لها أسباب قوية، بل كانت هناك أسباب مباشرة وظاهرة في قصة مباريات الكرة قبل أقل من عام. بيد أن الإصرار على إحداث الفوضى والتخريب أشار إلى أمرين اثنين: المشكلات الطويلة التي لم تجد حلاً، وعدم الاطمئنان إلى النظام الجديد المتكون. ومن المشكلات الطويلة القديمة أجهزة الشرطة والأمن، والتي ما أمكن للمواطنين الاعتياد على سلوكها السيئ والسلبي، أما هي فما استطاعت العمل تحت لواء «الإخوان» بعد أو أي نظامٍ آخر غير النظام الذي بناها واستخدمها. وقبل التعرض لحالة عدم الاطمئنان الشعبية إلى النظام الجديد، لنمض قليلاً إلى العامل الثاني: مسألة الأقباط والأقليات. وهي عندنا في الشام غيرها في مصر أو أنها كانت كذلك. فالأقليات عندنا وراحتها مقدَّمة على حالة الأوطان والدول. وما دامت راضيةً عن الأسد فينبغي أن يبقى بغض النظر عما يريده الشعب السوري كله. شبان الأقباط بمصر كانوا بين المبادرين الأوائل للحراك والثورة. وكانت طوائفهم من بين الأشدّ مُعاناةً خلال عهد «مبارك»، بسبب التلاعُب بأمْنهم وأمانهم ومواطنتهم وحقوقهم. ثم جاء الاستفتاء على الدستور، والانتخابات النيابية والرئاسية، ومضت الأحداث جميعاً باتجاه تهميشهم واستبعادهم وظهر ذلك في أحداث ماسبيرو التي قتُل منهم فيها خمسةٌ وعشرون شاباً. وجاءت الأحداث الأخيرة في بلدة الخصوص ثم أمام الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة. وبذلك يكون على المصريين الاعتراف للمرة الأُولى بوجود مشكلة أقليات لديهم، وقد فاقم منها وصول «الإخوان» للسلطة (مع أنهم الفئة الإسلامية الوحيدة التي ما شاركت في أحداث ضدهم في العقدين الأخيرين)، وزيادة إحساس الأقباط بالتهميش والعزل. والواقع أن السلطات و«الإخوان» ما أعطوا المشكلة الطائفية حقها رغم ضخامتها، وما مضى وراء ذلك غير شيخ الأزهر صاحب مبادرة «بيت العائلة المصرية».

ولنذهب إلى القضية الثالثة: القروض والمساعدات والتنمية. وتظهر فيها إشكاليتان: عجز الحكم خلال عام عن تطوير استراتيجيات جدية للخروج من المشكلات والسير في التنمية بالداخل ومع الخارج، والسلوك بطرائق مع الخارج للحصول على المساعدة، أدت إلى مشكلات أكبر. وأقصد بالإشكالية الثانية أمرين: السلوك مع إيران بشأن القروض والسياحة، والقروض والمساعدات التي حصلت عليها مصر في زمن «الإخوان» من قطر. فالكلام مع إيران بشأن السياحة أثار فئات واسعة من الشعب المصري. كما تذمَّرت فئات شابة واسعة وبمصر وليبيا وتونس واليمن، من تدخلات قطر في بلدان الثورات، ووقوفها إلى جانب «الإخوان»!

وفي الخاتمة: هناك أسباب متعددة للاضطراب بمصر. ولا شك أن هناك عدة جهات داخل مصر وخارجها تعمل على مكافحة سلطة «الإخوان». بيد أن «الإخوان» أنفُسَهُمْ ما أظهروا كفايةً مشهودةً في إدارة الشأن العام، لذلك فقد زادوا من التحريض على أنفسهم، كما زادوا من انسداد الأفق في الأجواء الاقتصادية والمعيشية والسياسية بمصر: ومن يكن «حازمون» وإيران والعجز أصدقاؤه؛ فإنه ليس بحاجة إلى أعداء!

المصدر: جريدة الاتحاد