رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

الأزمة اللبنانية والوقائع المستجدّة

آراء

تم تكليف النائب عن بيروت تمام سلام، ابن رئيس الوزراء الراحل صائب سلام، عقب الاستشارات الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية لنواب الكتل البرلمانية، بمهمة تشكيل الحكومة الجديدة، بعد أسبوعين على استقالة ميقاتي، الذي ظل رئيساً للحكومة على مدى العامين الماضيين. ولكي تكون أبعاد المشهد الجديد واضحةً، يستحسَنُ العودة إلى الوراء بعض الشيء.

قبل أربع سنوات، وفي عجلة السعي الأميركي للخروج من العراق، آل الأمر في المفاوضات مع إيران، إلى الخروج العسكري الآمن، وتأمين إسرائيل، وعودة السفير الأميركي إلى دمشق، وغلبة النفوذ الإيراني على العراق وسوريا ولبنان. لكن اختلالين حصلا: الاختلال الأول تمثل في تصعيد إيران في الملف النووي، والاختلال الثاني حصول الثورة في سوريا على الأسد ونظام حكمه. وها هي إيران تكافح وتصارع الولايات المتحدة ومن مواقع الدفاع في كل الملفات: تحمي الأسد هي و«حزب الله» والمالكي بالعتاد والرجال والأموال، وتعاني من حصار فظيع بسبب النووي، وتُواجه (مع المالكي) الاضطراب السني، والإعراض الكردي بالعراق. إنما خلال ذلك كله استمتع «حزب الله» (ومن ورائه إيران) بكل شيء في لبنان بما في ذلك حكومة ميقاتي!

السبب الظاهر لمغادرة ميقاتي سُدة السلطة قبل أُسبوعين، أنّ «حزب الله» وحليفه الجنرال عَون، ما استجابا لرغبته في التمديد أو التجديد لقائد قوى الأمن الداخلي اللبناني الجنرال أشرف ريفي. أما السبب الحقيقي فهو أن الأميركيين والأوروبيين الذين غطّوا ميقاتي لسنتين، نصحوه فيما يبدو بالاستقالة لزيادة الضغط على صديقه الأسد وعلى «حزب الله» الذي ظهرت تورطاته في الإرهاب ببلغاريا وقبرص، إضافة إلى انخراطه العلني في حرب الأسد على شعبه. فهل تحظى حكومةٌ قد يشكلها سلام، وهو شخصية وسطية تصالحية بفرص أفضل، لإقامة توازن ضاع تقريباً تجاه السنّة، وتجاه لبنان في العامين الماضيين؟

كان «تيار المستقبل»، ومعظم نواب المسلمين بالبرلمان الحالي ينتمون إليه، قد أصرَّ خلال العامين المنصرمين على استقالة ميقاتي، ثم أضاف لذلك بعد مقتل اللواء وسام الحسن (رئيس شعبة المعلومات بقوى الأمن الداخلي)، تشكيل حكومة محايدة لإجراء الانتخابات التي يحلُّ موعدُها في يونيو المقبل. ولذا ومن الناحية الشكلية، فإن المشهد تصحَّح بذهاب ميقاتي ومجيء سلام الذي أجمعت قوى «14 آذار» على دعمه في الاستشارات. إنما الملاحَظ أن هناك طرفين كان لهما نصيب وافر في مشهد حكومة ميقاتي، هما الآن في طليعة المشهد الراهن وهما فريق الجنرال عون، وفريق جنبلاط. فالأخير ظلَّ خلال الأسابيع الماضية يقول إن على صديقه ميقاتي أن يستقيل، وقد قال عبر الإعلام خلال الساعات الماضية إنه كان وراء ترجيح تسمية سلام لرئاسة الحكومة. ومن جهة ثانية فإن «عون»، صاحب المصلحة الرئيسية في الحكومة المنفرطة، يبدو شديد الغضب من جنبلاط ولا يوافق على أي حكومة قادمة إلا إذا استأثر فيها بالتمثيل المسيحي كُلّه! وعون لا يخاصم جنبلاط فقط؛ بل يخاصم أيضاً رئيس الجمهورية لأنه لم يقبل باقتراح القانون الانتخابي المسمَّى بالأرثوذكسي والذي تحمست له سائر الأحزاب المسيحية. ثم إنه لا يستسيغ رئيس مجلس النواب برّي الذي لم يذهب إلى الآخر في اقتراح القانون الأرثوذكسي المذهبي الطابع! وهكذا سيجد الرئيس المكلف عقبةً كأداء هي إنجاز قانون توافُقي للانتخابات، والتي يُصر الغربيون وعون على إجرائها، بينما يفضل «حزب الله» وجنيلاط تأجيلها إلى أمدٍ غير مسمى!

ثم لماذا وافق «حزب الله» على استقالة ميقاتي؟ أم أنه لم يمنعها عن طريق الموافقة على الاحتفاظ بالجنرال ريفي؟! هناك من يقول إنه أراد هو وعون الاستيلاء أيضاً على قيادة قوى الأمن الداخلي عبر المجيء إليها بعسكري سني ضعيف وحليف، أو أنه ما صدّق أنّ ميقاتي سيستقيل مهما حصل، لأنه لم يستقل بعد مقتل اللواء الحسن! بل وهناك من يقول إنّ الحزب الذي يقاتل ضد السنّة في سوريا، ويضغط عليهم أمنياً وسياسياً في لبنان، أراد مهادنتهم بهذه الطريقة. بيد أن هذه الأسباب جميعاً غير مُرجَّحة، إذ قد يكون السبب أنه يريد إبقاء لبنان بدون حكومة فاعلة بانتظار ما يحدث في سوريا. وعلى أي حال سيتبين خلال أيام هل سيسهل الحزب مهمة تشكيل الحكومة الجديدة، أم سيُصر ،كما قال نوابه وكذلك جبنلاط، على تشكيل حكومة «وحدة وطنية» لا يرى تيار المستقبل إمكانيةً لها الآن؛ إذ على ماذا سيكون التوحُّد والتصالح: على قتال الحزب في سوريا، أم على نشر الاضطراب الأمني بلبنان، أم على استيلائه على الأجهزة العسكرية والأمنية للدولة اللبنانية؟!

نحن إذن في أول الطريق؛ فالحزب مُصرٌّ على القتال بسوريا، واللاجئون العلنيون وغير العلنيين من سوريا صاروا في حدود المليون. وأجهزة الدولة جيمعاً تحت رحمة الحزب. وقد أنفقت حكومة ميقاتي خلال عامين 15 مليار دولار، والوضع الاقتصادي في منتهى السوء، والطيران والمدفعية السوريين يقتلان لبنانيين على الحدود، والأوضاع الأمنية مضطربة بطرابلس اللبنانية، رغم أنّ ميقاتي أحد أبنائها! وبالفعل فإن حكومةً غير حزبية وغير منقسمة يمكن أن تُهدّئ الأجواء، وأن تسهم في إجراء انتخابات نزيهة، وأن تعمل على تحقيق حقيقي للنأي بالنفس عن الحرب الدائرة في سوريا. لكن لبنان الواقع بين إسرائيل وسوريا، لا يمكن أن تُحلَّ مشكلاته الداخلية بالداخل وحسْب. فإيران وسوريا مهتمتان ببقاء لبنان تحت مظلتهما للإفادة منه في كل المجالات، ومن ضمن ذلك دعم نظام الأسد. فهناك شائعات لا تخمد عن الإفادة شبه اليومية من المطار والمرفأ. وقد انكشف أن مئات الشاحنات السورية تنقل البنزين إلى آليات الجيش السوري، بل وحتّى المتفجرات! والمسؤولون السوريون يسافرون عبر مطار بيروت، كما أن الإيرانيين، أشخاصاً وطائرات، يحطّون في بيروت في طريقهم نحو سوريا. ولذا فالذي أُرجّحُهُ أن الراحة النفسية التي شعر بها اللبنانيون بذهاب حكومة ميقاتي لن تستمر غير بضعة أيام، وتأتي بعد سهولة التكليف، مصاعب بل واستحالات التأليف.

ما الذي ينتظره اللبنانيون إذن للخروج من الأزمة السياسية والأمنية المستحكمة؟ الخروج النهائي من الأزمة لن يحدث بالطبع إلا إذا وضع «حزب الله» سلاحه على طاولة التفاوض في الحوار الوطني. والأقلُّ من ذلك بكثير ثلاثة أمور: التوقف عن التدخل العسكري بسوريا، وإعادة مؤسسات الدولة إلى العمل بدون استيلاء أو إفساد، وتسهيل تشكيل حكومة انتقالية لا يكون من همها تسهيل دعم النظام السوري.

المصدر: جريدة الاتحاد