رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

الإسلام وأوروبا وإمكانيات الإسلام الأوروبي

آراء

حضرتُ في منتدى أصيلة التاسع والثلاثين محوراً من ندواتٍ أو وُرَش عملٍ ثلاث (17 – 20 / 7 /2017) بعنوان: المسلمون في الغرب. والندواتُ والأعمال عن هذه المسألة المتفجرة كثيرة بل طاغية في الأعوام الأخيرة، بعد التفجر الثاني أو الثالث للعلائق على حواشي افتراس الدواعش وإيران وروسيا وأميركا لحركات التغيير العربية. إنما على كثرة الأعمال والاستطلاعات وعدم جدية أكثرها أو تحيزاتها؛ فإنني حرصتُ على الحضور والكلام في محور منتدى أصيلة عن هذا الموضوع الخطير، للجدية التي تتميز بها أعماله في كل ما يقوم به بريادة وقيادة الأستاذ محمد بن عيسى الوزير السابق للثقافة والخارجية بالمملكة المغربية. وبالفعل فقد تحدث أو علّق نحو الثلاثين من الباحثين المتخصّصين، والآخرين من الضيوف الحضور المهتمين.

إنّ أولَ ما حرض الباحثون في الندوات عليه هو عدمُ الغرق في التاريخ الخاصّ بهذه العلاقة وإشكالياتها إلاّ بقدْر ما يعين ذلك على فهم التفجر الحالي. فالهجرة القديمة إلى أوروبا جاءت على وجه الخصوص من طرف شعوب المستعمرات الأوروبية في آسيا وأفريقيا. وهذا يسري على سائر تلك البلدان، حتى بعد قيام الدول الوطنية المستقلة في تلك الأقطار، ولو بعد نضالٍ وطني وحروب تحرير كما حصل في الجزائر وكينيا وإثيوبيا… الخ. لماذا استمرت الهجرة أو تعاظمت بعد الاستقلال إذن؟ يُصرُّ نقّاد الخطاب الاستعماري من اليساريين على إدانة سياسات الدول الاستعمارية القديمة والحديثة تجاه شعوب العالم الثالث، والتي زادت في إفقار تلك البلدان، ودفعت الشرائح الفقيرة جداً، والأُخرى المتعلِّمة والمهمَّشة للتسيُّب والثوران والهجرة. وهذا صحيحٌ بمراعاة المشهد العالمي في الحرب الباردة وما بعدها. إنما من جهة أُخرى، لماذا لا يسأل الباحثون والمراقبون أنفسهم عن فشل تجربة أو تجارب الدول الوطنية بعد الاستقلال، وبخاصة ما يتعلق بقيام أنظمة سياسية عسكرية وأمنية في معظم تلك البلدان، فشلت في معركة التنمية، وفشلت في إقامة مؤسسات منتظمة تتوافر فيها آليات الحريات والمشاركة. لقد بلغ من سوء الأحوال في بلدان الاستقلال هذه، أن اندفعت شعوبها للهجرة إلى بلاد «الأعداء» الاستعماريين السابقين؛ متناسية نضالاتها الوطنية السابقة ضدَّها، ومتناسية سوء استقبال تلك الجهات للمهاجرين إليها. بل إنه وفي السنوات الأخيرة؛ فإنّ المهاجرين كانوا في الحقيقة مهجَّرين أو مطرودين من جانب الأنظمة وبخاصة في سوريا والعراق. وكانوا يهربون من الموت، مع خطر الهلاك في البحار والمحيطات كما حصل بالفعل مع الآلاف منهم! إنّ الدول الوطنية الفاشلة والقاتلة هي السبب الأول، والعلة الأُولى لخروج ملايين الناس من ديارهم تتبعهم قاتلة ومهجَّرة الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة وجيوش الأنظمة المتحولة إلى ميليشيات قاتلة ومخرِّبة! إنّ مفتاح الفهم لظاهرة الهجرة من ديارنا وخلال خمسة عقودٍ وأكثر هو الأنظمة الفاشلة السائدة في بلداننا.

أما المسألة الأُخرى التي ظهرت خلال التفجر الأخير في العلاقة بيننا وبين أوروبا؛ فهي الإرهاب. ولا أقصِد بالإرهاب هنا الذريعة التي استخدمت من جانب الإيرانيين والأميركيين والروس لتهجير شعوبنا وتخريب بلداننا، وقتل ناسها؛ فهذه الظاهرة حاصلة ولها عدة جوانب أو عِلَل. بل أقصد في السياق الذي نشتغل عليه المقولة أو الأُطروحة التي تحدثت منذ ثلاثة عقود عن الإسلام الأوروبي. وهذه الأطروحة التي كثُر دعاتُها في تسعينات القرن الماضي تحت وطأة أزمتَي البوسنة وكوسوفو لها جذورٌ أقدم، وهي تتقصد ثلاثة أمور: ضرورة اعتراف الأوروبيين بالمواطنة الكاملة للمسلمين في بلدان أوروبا التي هاجروا إليها – والأمر الثاني: تطوير وعي لدى المسلمين بضرورات الاندماج والفعالية والمشاركة في الحيوات الثقافية والسياسية للمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها – والأمر الثالث اعتراف الأوروبيين بالخصوصيات الدينية والثقافية للأقليات الإسلامية في مجتمعاتهم. كان أبرز الداعين لهذه الأمور الثلاثة بعض الأئمة والدعاة، ومن ذلك مجلس الإفتاء الأوروبي، المكوَّن من شخصيات فقهية وسياسية أكثرها لا تقيم في أوروبا. واشتهرت جدالات طارق رمضان التلفزيونية مع بعض المسؤولين الأوروبيين ومنهم وزير داخلية فرنسا ساركوزي، الذي صار رئيساً للجمهورية الفرنسية فيما بعد. كانت الدوافعُ الأُولى لهذا النقاش الضغوط التي بدأت الإدارات الأوروبية تُمارسُها على جمعيات المسلمين، ولجان مساجدهم، والخطاب الإعلامي المعادي للإسلام، وقد شملت ناحيتين: مسألة التطرف، ودعوات الانفصال والتكفير من جانب بعض الأئمة والجمعيات. والمسألة الثالثة: الضغوط الأوروبية في مسائل الحجاب والنقاب وبناء المساجد والمنارات. وعندما تحطّمت الدولة الاتحادية الصربية (= يوغوسلافيا)، وبدأت الانفصالات، وقيام الدول المستقلة، كان من بينها إقليمان ذوا كثرة إسلامية. وما كانت هناك موافقة أوروبية على قيام دول إسلامية في أوروبا. ورغم دخول قوات من الاتحاد الأوروبي للوقوف بين الأطراف (مسلمين وكرواتيين وصرب)، وحصول اتفاق دايتون؛ فإنّ المذابح الصربية استمرت، إلى أن تدخل الطيران الأميركي أيام الرئيس كلينتون، وفرض القبول بدولة اتحادية في البوسنة – الهرسك، وأُخرى في كوسوفو (فيها قلّة صربية). وخلال تلك السنوات الخطيرة في النصف الثاني من التسعينات اختلط الملفان: ملف الإسلام الأوروبي المضغوط عليه، وملف المسلمين الأصليين الموجودين في البلقان وروسيا الاتحادية، والذين يطمحون لإنشاء كيانات تتخذ من الإسلام ما يُشبهُ الهوية القومية (!). وكما هو معروف؛ فإنّ المسلمين الأصليين أقاموا كيانات أو أنصاف كيانات. أمّا المسلمون ذوو الأصول المهاجرة في غرب أوروبا فزادت قضاياهم تعقيداً، وبخاصة بعد تكاثُف موجات الهجرة، ثم انفجار أحداث العنف باسم الإسلام بداخل أوروبا.

لقد ذكرتُ هذه الأمور كلها، لكي أُوضّح وليس لكي أُعلِّل، اندفاع اثني عشر ألفاً من أبناء المهاجرين للانضمام إلى «داعش» بالعراق وسوريا، وستة آلاف من روسيا الاتحادية. وبالطبع فإنّ بعض هؤلاء ليسوا من أصول عربية أو إسلامية، بل معتنقون جدد للإسلام استناداً إلى وسائل التواصل. ثم جاءت الظاهرة الأُخرى المفزعة، والمتمثلة في اندلاع العنف العشوائي والسيارات الانتحارية في شوارع المدن الأوروبية، وسقوط مئات القتلى والجرحى في نزوعٍ تدميري صعب جداً على الفهم، فضلاً عن التفهم. ورغم الحديث الكثير عن الذئاب المنفردة؛ فإنّ «داعشاً» كان يعلن في كل مرة مسوؤليته عن هذا العنف القاتل.

ماذا عني ويعني هذا كلّه؟ هذا يعني أنّ المجتمعات المسلمة في أوروبا ما أثّرت في بلدانها الأصلية، بل إنّ هؤلاء المساكين هم الذين تأثروا بمشكلاتنا، وساروا وراءنا، وليس وراء الإمكانات الإيجابية التي كنا نتوقعها من حياة هذه الملايين بأوروبا عبر عدة عقود. يعتقد الشبان المنضمون لـ«داعش» أنهم ينصرون السنة في العراق وسوريا وليبيا. ويعتقد الانتحاريون في الشوارع الأوروبية أنهم إنما ينتقمون لـ«داعش» من الأوروبيين والأميركيين الذين يقاتلونه!

ماذا نفعل إزاء هذا التردي في العلائق مع الأوروبيين والغرب بعامة؟ أنا أرى أنّ لهذا السوء سببين مباشرين: موجات الهجرة، وموجات العنف. وهذا فشلٌ كبيرٌ لنا وعلينا بعد جهود مائة وخمسين عاماً لإقامة علاقات صحية وندية ومفيدة. وبالطبع فإنّ الأحداث المفجعة الجارية لا يمكن الجزم من خلالها بانتهاء كل شيء، لكنْ من جهة أُخرى لا أُفُق واضحاً يمكن المضي باتجاهه. وتبدو إمكانيات التواصل السلس والحضاري والعيش المشترك مع العالم الآن في أدنى درجاتها ولذا لا بد من التفكير بالمديات الطويلة. إنه فشل لنا وللمسلمين الأوروبيين.

المصدر: الشرق الأوسط