عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

الذين أصابتهم حرفة الأدب!

آراء

إن إصرار الإنسان على امتهان حرفة ذات طبيعة مختلفة دليل على رغبته الأصيلة والمؤكدة في بلوغ هدف أو غاية من غايات الدنيا كالمال والشهرة ومصاحبة ذوي الجاه والسلطان، إلا حرفة الأدب، فهذه تسرق العمر والراحة والمتع الصغيرة منها والكبيرة، خاصة إذا استبد الأدب واستحوذت الكتابة على صاحبها، لذلك نرى معظم أهل الأدب الحقيقيين من بسطاء الناس وربما من فقرائهم أيضاً، ومن هنا كان يقال: فلان أدركته حرفة الأدب، وفلان هذا هو الأديب والشاعر، ويمكن أن ينضم إليهما الروائي والكاتب الصحفي الذي قد تدركه حرفة الأدب أيضاً!وأدركته حرفة الأدب أي: تسلطت عليه واستعبدته فصار يخدمها أكثر مما يخدم نفسه وحياته دون أن يتمكن من الفكاك منها، فهي حرفة لا يتقاعد صاحبها ولا يستقيل ولا يعتزل، وهنا نتحدث عن الأدباء من أصحاب المواقف والرؤى والأفكار الكبيرة!إن الأدباء الذين يمنحون الأدب كل وقتهم وجل اهتمامهم هم أولئك الذين يبرعون في حرفتهم، فيعكفون على تطويرها وتحسينها بالقراءة والبحث والتأمل والاستماع والسعي لطلب الاستزادة من المتقدمين والرواد، دون أن يتوقفوا عن بذل المزيد من الجهد والعمل، مع إدراكهم الكامل أنهم اختاروا المهنة الأصعب والأشرس! نعم الأشرس كما وصفها الأديب العالمي «ماريو برغاس يوسا»، عندما كتب في واحدة من رسائله إلى روائي شاب يقول له: «إن الأدب حين يتحكم في صاحبه يصير كتلك الدودة اللعينة التي تنفذ إلى الأمعاء وتربض هناك تتغذى على صاحبها دون توقف، وهكذا الأدب يتغذى على وقت وذاكرة وحياة الكاتب»، وقبله قال «توماس وولف» معلم فوكنر: «لقد عرفت أنني قد تحولت أخيراً إلى كاتب، عرفت أخيراً ما الذي يحدث لإنسان جعل من حياته حياة كاتب»! يعتنق الكتاب العظام الأدب كمن يعتنق ديناً، يقول يوسا، بحماسة وإيمان واستعداد للتضحية! فماذا يحتاج الأدب من الأديب ليتم وصفه هكذا؟ في الحقيقة إنه يحتاج إلى كل شيء: الميل والجهد والوقت والطاقة، إن هؤلاء الذين يمنحون الأدب كل ميلهم وجهدهم ووقتهم وطاقتهم هم وحدهم من سيكونون في وضع يمكّنهم من أن يصيروا كتّاباً حقيقيين، وأن ينجزوا أعمالاً تستمر بعدهم، هذا ما يقوله تاريخ الأدب وتاريخ الأمم، هكذا كان غارسيا ماركيز، ونيرودا، ونجيب محفوظ، وتولستوي، وديستويفسكي!

لا شيء يمكن أن يغيّر أصول هذه القاعدة أو المعادلة، لا السوق ولا التجارة ولا الشطارة، يمكن للكاتب أن يستفيد من التطور ومن التكنولوجيا ومن شطارة مروجي الكتب، يمكنه أن يتلافى ضياع الوقت، وأن يعظم فائدته من تدفق المعلومات، وأن يصل بأفكاره إلى جمهور أوسع، لكنه سيظل دائماً بحاجه إلى الميل الحقيقي للأدب، وإلى الجهد الكبير قبل الموهبة، وإلى الزمن لتتراكم النتاجات وتنضج، هؤلاء الذين يخربشون على الأوراق دون جهد وبحث معمّقين ودون قراءات متخصصة ودون تجربة، ثم لا يحتملون أي نقد أو توجيه، لن ينتجوا أعمالاً يذكرها الناس ولا أعمالاً تعيش بعدهم، هؤلاء أصابهم عارض الشهرة، لكن لم تصبهم حرفة الأدب حتماً!

المصدر: البيان