رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

القمة العربية وإخراج سوريا من الانفصال

آراء

قبل خمسين عاما بالضبط خرجت سوريا من دائرة الإرادة الوطنية والعربية بانقلاب 8 مارس (آذار) 1963. وقد عُمِّي الأمر يومها لبعض الوقت، لأنّ القائمين بالانقلاب كانوا ينقلبون في الظاهر على الذين صنعوا الانفصال عن مصر عام 1961، وأنه كان بينهم ضباط بعثيون وناصريون.

انقلاب عام 1961 أراد إعادة سوريا إلى محلياتها بين المدينة والريف، وبين المدني والعسكري. وانقلاب عام 1963 بعد أن انفرد به البعثيون أراد تثبيت فصل الشام عن مصر، وإحلال «الطليعية» التقدمية، محلَّ جمهور الشارع الوطني. فالعجيب أن لا يكون بالجيش العربي السوري في مطلع الستينات وحدويون وتقدميون إلاّ من أبناء الأقليات العِرقية والدينية واللغوية.

والعجيب أنّ الفريق أمين الحافظ الرئيس السني بعد «ثورة» عام 1963 أراد «قهر» جمال عبد الناصر بالإغارة على إسرائيل فورا بدلا من وضع استراتيجيات وتحويل مياه نهر الأردن «وغير ذلك من السخافات»!

وعندما تمردت حماه للمرة الأولى عام 1964، أراد الفريق الحافظ إظهار إخلاصه للقرمطية الصاعدة فأمر بقصف الجامع الذي لجأ إليه المحتجون في أحياء حماه الداخلية! بيد أنّ «غيرته» هذه على الثورة التقدمية العلمانية التي لا تتردد أمام هدم المساجد على مَنْ فيها، ما حمتْه من طرد زملائه له، واضطراره للجوء أخيرا للعراق لعند صدّام حسين وأتْباع «القيادة القومية» مع ميشال عفلق ومنيف الرزاز وآخرين!

وهكذا وخلال خمسين عاما من «ثورة» 8 آذار المجيدة (مثل اليوم المجيد للأمين العام لحزب الله، فهو احتل بيروت، والآذاريون عام 1963 احتلوا دمشق!). مر الحكم في سوريا العربية بثلاث مراحل: مرحلة الصراع مع جمال عبد الناصر إبقاءً على الانفصال لأنه يريد «وحدة مدروسة» – ومرحلة الصراع مع العراق البعثي تبريرا للوجود في السلطة من أجل استيعاب أو تصفية «المقاومات» العربية في فلسطين وغيرها – والمرحلة الثالثة: تبرير الوجود تبريرا كاملا بإجراء ترتيبات مع أميركا وإسرائيل، امتدت منذ السبعينات وإلى رحلة أوباما الأخيرة إلى إسرائيل قبل أيام!

لقد استترت الانفصالية التقدمية دائما بستار الراديكالية والتطرف في الانتصار للعروبة. حتى عندما نافس صدّام حسين حافظ الأسد على هذه السلْعة التي كانت مُربحةً لدى الجمهور يومَها، سارع الطليعيون في سوريا إلى اعتبار أنفسهم تقدميين يساريين واعتبار الآخرين يمينا رجعيا. بيد أنّ هذه الراديكالية التقدمية ما مورست تجاه إسرائيل والولايات المتحدة، بل مورست تجاه العراق الصدّامي، وتجاه الشعوب العربية في سوريا وفلسطين ولبنان.

وقد عشنا نحن في لبنان مأساة الشعبين الفلسطيني واللبناني مع حافظ الأسد ونظامه، ومع بشار الأسد وسياساته. فقد كان الفلسطينيون والسوريون حتى عام 2010 يُحْصون ضحايا نظام الأسد من الشعوب الثلاثة بـ150 ألف قتيل، و300 ألف معتقل. ولدينا الآن تقارير وقصص كثيرة من السجون والمعتقلات التي قضى فيها زهرة شبان سوريا وشيوخها عشرات الأعوام. كما أنّ لدينا عشرات التقارير عن مذبحة حماه عام 1982، لكننا لا نملك تقارير عن مذابح «فرع فلسطين» في الاستخبارات السورية، ولا تقارير عن أعمال «مخابرات الطيران» وهما الفرعان الأكثر هَولا في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وحتى اليوم. أما عندنا نحن في لبنان؛ فإنّ أكبر الجرائم السورية ارتُكبت تحت عنوانين: عنوان العمالة لإسرائيل بالنسبة للمسيحيين، وعنوان العرفاتية والاستسلام للعدو بالنسبة للمسلمين. وبعد الطائف، ومشاركة حافظ الأسد في الحرب على العراق، ما عاد النظام السوري بحاجةٍ للاستتار بأي شيء. ولذلك كانوا يقولون لنا في التسعينات (بمن في ذلك عبد الحليم خدام): كل من لا يقف مع المقاومة المنحصرة في حزب الله، ونبيه بري، فهو عدوٌّ لسوريا الأسد لأنه لا يقول بتحرير الأرض، وتحرير فلسطين. وعندما انسحب الإسرائيليون من جنوب لبنان عام 2000، اعتبر سوريو الأسد أنّ إسرائيل غدرتْ بهم إذ أسقطت ذريعة بقائهم في لبنان. ثم اخترعوا ملفّ مزارع شبعا ونسوه بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، وهم منذ ذلك الحين يستندون في الإبقاء على سلاحهم إلى عامل «الردع» الذي من أجله لن يجرؤ العدو الصهيوني على الإغارة على لبنان!

لقد ضحكتُ كثيرا عندما سمعتُ بيانات التلفزيون السوري على أثر جلوس المعارضة السورية في مقعد سوريا بالجامعة العربية. فقد صاروا إلى التفرقة بين العروبة (التي هم وُلاة أمرها بزعمهم)، والأعرابية البدوية. وقد سمعتُ هذه النغمة منذ الثمانينات خلال الحرب العراقية الإيرانية. فقد طرد السوريون وعملاؤهم كل السفارات العربية من لبنان باستثناء سفارة الجزائر، وصاروا يُعيّروننا بأننا من الأعراب، بينما هم من أتباع ثورة إيران الإسلامية وولاية الفقيه. ولولا الرئيس الأسد – كما قالوا – لما تنازلوا وظلُّوا يسمُّون أنفسهم عربا! وهكذا وفجأةً صار الأسد وأعوانه في سوريا ولبنان والعراق عربا أما الآخرون فهم بَدْوٌ وأعراب.

المهمَّ في ذلك كلِّه، أنهم لا يريدون أن يكونوا جزءًا منا؛ إذ لو اعترفوا بذلك لما كان من حقّهم الاستئثار بالسلطة لنصف قرن، ولما أمكن لهم أن يقتلوا مئات الألوف، ويشردوا الملايين من بني قومهم. ولذا فالأَولوية للاحتفاظ بالسلطة بالقوة وليس بالاسترضاء، ما عدا ثلاث أو أربع سنوات في بداية عهد حافظ الأسد. حتى إذا دخلت لحظة ضعفٍ لأي سبب، احتاجوا إلى جانب القوة لتعليل أفضليتهم علينا نحن «السواد الأعظم» من العامة والهوام. والتعليلات تختلف باختلاف الحقبة. في الأول العروبة والسعي للوحدة، ثم التقدمية، ثم الاعتدال والتنوير، ثم ثقافة المقاومة، ثم العلمانية والحداثة في مواجهة الإرهاب والتشدد والأُصولية. وهم على استعداد لتقاسُم السلطة مع الإيرانيين ومع الأميركان ومع الإسرائيليين ومع الدب الأحمر، والمهم أن لا يكون بين المقبلين على المطالبة واحدٌ أو أكثر من أبناء الأكثرية السورية أو العربية.

لا شكّ أنّ المشكلات التي تواجهها سوريا وثورتها كبيرةٌ وكثيرة، بيد أنَّ أهمَّها أو أصعبها في موازاة إعادة البناء العمراني والسياسي: الخلاص من هذا الوعي الطليعي والأقلوي المزيَّف والمتعاظم دون داعٍ ودون مستقبل. فلا يمكن لي أن أقبل منك السيطرة علي لأنك أقليةٌ إثنية أو لغوية أو دينية وأنك خائفٌ من فظاعات الأكثرية. وكيف صِرْتَ أنت الذي تكاد لا تعرف العربية ولا تقاليد العيش في مجتمعاتنا التاريخية، عربيا مدنيا، وأنا الباني والمعمِّر وصانع الحضارة لك ولغيرك أعرابيا بدويا؟!

تحيةً للشعب السوري في عهده الجديد، عهد الحرية والكرامة والعروبة. لقد تأخرت الجامعة العربية، لكنها صحّحت أخيرا التاريخ من أجل وضع المستقبل في الوجهة الصحيحة.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط