بين الأصل والواقع

آراء

خاص لـ هات بوست: 

يطمح الكثير منا نحن المسلمين المؤمنين برسالة محمد (ص) لتصحيح صورة الإسلام أمام العالم، بكل أرجائه، وتقديم الصورة الحقيقية لهذه الرسالة نقية خالية مما علق بها من شوائب، ورغم أهمية هذا الهدف، إلا أنه من باب أولى أن نوضح الصورة أمام أنفسنا وأبنائنا ومجتمعاتنا، إذ يبدو أننا أخذنا الإسلام وكأنه سيرة متداولة قيل عن قال، ولم نتوخ الدقة حتى في هذه السيرة، وباختلاف الأقوال وتضخمها أصبحنا أمام أشكال متعددة من “الإسلام”، لا تشترك معه إلا بنزر يسير، إنما هي عادات وأعراف محلية حملت رايته وتدثرت بها، ومن ثم ادعى كل شكل أنه يمثل “الثقافة الإسلامية”، ومن ثم رسخت في العقل الجمعي مسؤولية الإسلام عن العديد من الأمور التي لا تتنمي إليه من قريب أو بعيد، وتبناها البعض كما هي وهاجمها البعض الآخر، دونما أدنى تمحيص، ابتداءً باضطهاد النساء، وحرمانهن من الميراث وحتى قتلهن تحت مسمى “الشرف”، مروراً بعادات الزواج والطلاق وبيت الطاعة وما إلى ذلك، إلى التسلط على الأبناء والتحكم بهم بموجب “أنت ومالك لأبيك”، إلى ممارسات عديدة ليست من الدين في شيء.

ويمكن لنقاش بسيط مع جيل الشباب أن يكشف النقاب عما أتحدث عنه، فستجد نفسك أمام نوعين، الأول من يعيش عقدة الذنب لأن قائمة الحرام لا حدود لها، والله شديد العقاب، يعد علينا عثراتنا، ويحيطنا بالملائكة من رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا، تراقبنا وتسجل كل ما نقوم به، ومهما فعلنا فسنرد جهنم، ورغم أن كل أمورنا مكتوبة سلفاً إلا أننا سنحاسب على قراراتنا، وبالتالي لا أمل أمامنا، أما الثاني فهو من لا ينتمي للإسلام إلا بالهوية، وبنظره هذا الدين ينافي العلم، ويحمل كم هائل من العنف والتخلف، إضافة إلى كراهية الآخر على اختلاف أشكاله، وبالتالي من الصعب الاقتناع بتعاليمه.

ورغم أن بيوتنا ومكتباتنا عامرة بالمصاحف، ورغم أننا نحفظ ما تيسر من آيات كتاب الله، إلا أننا لا نتدبرها، ولم نعتد ذلك، فقد تعلمنا أن هذا الكتاب عصي على الفهم، وهو للخاصة لا للعامة، نحتاج لمن يفسره لنا، وبالتالي أصبح للتلاوة في مراسم العزاء، وفي أفضل الحالات هناك عدة تفاسير متوفرة، يمكننا الاستعانة بها، لكنها مع كل الاحترام لأصحابها الذين ماتوا منذ مئات السنين، لا تعدو عن كونها شرح مفردات و”أسباب” نزول.

والمفارقة أن من يقرأ الكتاب يجد الأمر مختلفاً تماماً فهو لكل الناس، وفيه الله تعالى يدعونا للتفكر والتدبر دونما وسطاء {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد 24)، ولأن هذا الكتاب صالح لكل زمان ومكان، ويحمل في طياته إعجاز الرسالة المحمدية، فإن الكثير من آياته يظهر تأويله تدريجياً مع تقدم العلم والمعرفة، وبيان صدقه ما هو إلا توقيع رب العالمين على قدسية هذا الكتاب، كما وصفها الدكتور محمد شحرور رحمه الله، أما آيات الرسالة فتحمل القيم الإنسانية التي يتفق عليها معظم أهل الأرض، مع الأخذ بالاعتبار الآيات التي تصف أحداث عصر الرسالة وكونها تحمل الطابع التاريخي الذي يخص عصرها ككل القصص القرآني، ونأخذ منها العبر ونفهمها وفق هذا الأساس، بما في ذلك العنف في بعضها، ومنها نستخلص كيف تعامل رسولنا مع الآخرين، حتى أعدائه المشركين {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6).

وبالتالي يمكننا التعرف على الإسلام من كتاب الله، لنكتشف أن الله يغفر الذنوب جميعا، وأن رحمته وسعت كل شيء وعذابه محدد يطال المجرمين، وأن المحرمات معدودة يمكننا الالتزام بالابتعاد عنها أنى كنا، سيما أن هذا الالتزام هو القيم العليا التي تدعو إليها كل الشرائع من بر الوالدين إلى الإحسان إلى الأيتام إلى تجريم القتل والفواحش والغش وشهادة الزور، وأن الإسلام لا يتعارض مع العلم نهائياً إنما هو قصور فهمنا لآيات الكتاب حالياً، أما العلاقة مع الآخر فقوامها السلام، والاختلاف هو سنة الله في خلقه، والشعائر تقربنا من الله وهي لراحة أنفسنا فالله في غنى عنا وعنها.

فإذا فهمنا ديننا على هذا النحو، تشكلت لدينا مناعة أمام الترهات التي نواجهها، سيما في عصر التكنولوجيا التي تحمل لنا بسهولة الغث والسمين، وتنسب إلى الإسلام شتى الأكاذيب، فتنفّر القريب قبل الغريب، كأن يصلك مثلاً أن قوانين حقوق الإنسان ضد الإسلام، لأنها تشجع على منع زواج القاصرات، وكأن الإسلام لم يطلب الرشد في الزواج، كذلك منح حقوق لمن هم “لقطاء” هو تحفيز على الفاحشة، وكأن هؤلاء ليسوا أيتاماً دعانا الله للرأفة بهم، والقائمة تطول.

واليوم إن كنا مهتمين برسالة الرحمة التي تكرمنا بحملها، علينا العمل على تقديمها لكل من حولنا بنسختها الأصلية لا المشوهة، حيث الإنسان فيها هو الخليفة على الأرض، بكل ما تحمله “الإنسانية” من أخلاق ومعارف ميزته عن خلق الله.