تفجير بيروت وتشويش الأفكار

آراء

تحتاج بعض تعليقات المثقفين والأكاديميين العرب التي رافقت عملية تفجير مرفأ بيروت خلال الأسبوع الماضي، إلى الوقوف أمامها والتمعن فيها وتصويبها إن احتاج الأمر لذلك، وبشكل خاص فيما يتعلق بالمفاهيم المطروحة خلال تلك التعليقات من قبيل مفهوم الدولة الوطنية خاصة لدى تلك الدول التي تعاني من التشتت والتفكك منذ أن ظهر ما يعرف بالولاءات الطائفية العابرة للحدود خاصة تلك التي لها علاقة بـ “إيران” التي تجيد لعبة التدمير وإضعاف الدول الوطنية التي عانت منها مجتمعاتنا المتسامحة والمتعايشة على مدى قرون مضت وهي لا تفوت فرصة لنشر أجندة تدميرية وزرع الأدوات اللازمة عندما تجد منفذاً لأي دولة.

إن أكثر ما يقلقنا مع كل كارثة تصيب إحدى الدول العربية هو ظهور أصوات عربية يُفترض أن لها ثقلها الأكاديمي في الشارع العربي نتيجة لمكانتها الثقافية المفترضة ولما تتمتع به من وجود مساحة كبيرة لحرية التعبير ولها علاقتها مع عدد من المؤسسات الثقافية العالمية مما يتيح لها القدرة على التأثير وتشكيل الرأي العام العربي تجاه عدد من قضاياه المصيرية والمهمة بأفكار خاطئة، وآخر مثال على ذلك حادثة تفجير مرفأ بيروت التي أظنها واحدة من الكوارث العربية الكبرى التي تحتاج إلى كل الأصوات العربية المنددة بمختلف شرائحها، حيث إنه لفت انتباهي وأنا أقرأ إحدى الحوارات مع أكاديمي عربي يتم تقديمه على أنه متخصص في النظم السياسية ويفترض أنه يدرك أهمية زرع وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية لدى المواطن العربي اعتباره أن أي تحرك عربي أو دولي لإيقاف حالة التدهور السياسي الذي يعيشه لبنان سيكون أقرب لـ “مؤامرة دولية للقضاء على ما يسمى “حزب الله” اللبناني!، وهو أمر أبعد ما يكون عن الواقعية الواجبة في التعاطي السياسي مع أي قضية كانت، وهنا فإن رأي الشعب اللبناني هو الأدق على الأغلب من أي رأي آخر لكونه عانى طويلاً من طغيان “حزب الله” واستقوائه بالسلاح غير الشرعي على مفاصل الدولة اللبنانية وقرارها السياسي والزج بها في متاهات المصالح الدولية المتضاربة خدمة للنظام الإيراني، وهو ما سبب أخطر وأكبر النكبات والويلات للبنان، حيث إن وجود دويلة ضمن الدولة مخالف تماماً لاتفاق الطائف وتقديم الولاء بشكل علني لدولة أخرى لا تربطها بلبنان لا الجغرافيا ولا الحاضر ولا الثقافة أو اللغة، أمور لا يمكن أن يتم تغطيتها بشعارات فقدت بريقها من شدة الاستهلاك.

ولو سلمنا جدلاً وفق منطق هذا الأكاديمي، صاحب المؤلفات التي تدرس لطلبة العلوم السياسية في عدد من الدول العربية وله حضوره في القنوات التلفزيونية، أن حسن نصرالله رئيس مليشيا “حزب الله” الإرهابي واحد ممن يحرصون ويعملون على خدمة الدولة اللبنانية وشبعها كما يحاول البعض الترويج له، فعلى أي أساس يوجه الاتهامات لدول تدعم المؤسسات الشرعية اللبنانية وبمعنى آخر تقوي دعائم الدولة، فالدول المتحضرة تتعامل مع أنظمة شرعية وليس مع مليشيات عابرة يرفضها أغلب من يعيشون في ذات البلد الذي تحاول تطويعه لخدمة مآرب دولة أخرى.

وبالتالي كيف لمن ينتظر منه أن ينشر فكراً حول الدولة الوطنية وأهميتها في الدفاع عن مصالحها ومصالح مواطنيها، أن يقوم بالتحايل على الرأي العام العربي؟، وهل يمكن أن يكون الموقف الفكري والأخلاقي والإنساني والوطني غير رفض مثل هذه السموم التي حاول البعض نفثها؟ خاصة وأنه يرى ما حدث في لبنان وغيرها من الدول العربية بسبب مغامرات نصرالله وحزبه من أجل خدمة إيران، والغريب أن الأكاديمي إن لم يخني الظن من أصحاب الأفكار القومية العروبية التي يفترض أنها لا تتوافق مع الفارسية إلا إذا طبقنا القاعدة التقليدية أن الأزمات تكشف معادن الناس، وبالتالي حادثة تفجير بيروت عرت فكره ولم تكشفه فقط.

الشيء الذي ينبغي التوقف عنده في هذا الحوار المنشور يوم السبت الماضي أنه مثلما أن هناك تنظيمات مسلحة عربية ودول مثل نظام قطر رضت أن تقدم خدمات مجانية لأحد أخطر دول الجوار العربي منذ بداية الثمانينيات والمعروف عنها نشرها ودعمها للمليشيات الطائفية التي هددت وأضرت المجتمعات العربية. كذلك يوجد أشخاص هم بمثابة “تنظيم متحرك” بحكم حضورهم ومكانتهم في المجال الثقافي والأكاديمي ولهم مريدوهم الذين يؤمنون بفكرهم وبأطروحاتهم وبالتالي علينا الانتباه لهم خاصة في ظل وجود مساحة إعلامية كبيرة متمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي التي يستطيعون من خلالها خلق “عاطفة” سياسية قد تؤثر على الخطاب الرسمي وتعيد تشكيل أفكار الرأي العام العربي تجاه من يهددون فعلاً استقرار دولته ومجتمعه الكبير.

كلما اقتنعنا أن دولنا العربية بدأت تشكل موقفاً سياسياً ضد من يعتدون عليها ومنها لبنان، واللبنانيون أنفسهم الذين يجاهدون منذ قرابة السنة لاستعادة وطنهم الذي اختطفه حسن نصرالله بكلامه واللعب على التهييج الطائفي وأن ما يقوم به لا يتعدى أن يكون كذبة كبيرة يسارع ذلك “الأكاديمي” لتصديقها على المستوى الشخصي ولا يقرها منهجه السياسي، ويأتي من يبث سمومه في المجتمع العربي دون أن يدرك أن المجتمع العربي والمواطن البسيط بات أكثر وعياً وأكثر وطنية من الكثير من حملة الشهادات العليا التي لا تحمل معها أفكاراً وطنية.. لك الله يا لبنان الجميل.

المصدر: الوطن