رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

هل يذهب «الثور الأبيض» ضحية لون جلده؟!

آراء

طوال الأشهر الثلاثة الماضية، كان الدكتور محمد شطح شديد القلق. وما كان ذلك بسبب خوف من جانبه من الاغتيال، إذ لم يخطر على باله مطلقا أنه مهدد أو مستهدف. بل كان قلقه لثلاثة أسباب: الدمار الهائل الحاصل في سوريا على الإنسان والعمران، وامتداده حكما وتخطيطا وليس مصادفة إلى العراق ولبنان واليمن. والتوافق الأميركي – الروسي على إعطاء الأولوية لمسألة مكافحة الإرهاب في العراق وسوريا ولبنان، واستخدام إيران في ذلك إن تعذر الاستمرار في استخدام إسرائيل والأسد أيضا. ومحاصرة أو محاولة حصار المقاومة العربية لهذا الدمار الأسطوري باعتبار العرب الذين يحاولون مساعدة البلدان العربية المنكوبة حلفاء للإرهاب، وعلى رأسهم للإنذار والتهديد المملكة العربية السعودية!

ولأن الأمر يتعلق في القسم الأكبر منه بالولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط، وشطح كان أكبر المتخصصين الذين أعرفهم في ذلك، فقد حادثته طويلا في المسألة ذات الشعبتين: التقدير القائل بحسب الصحافيين الأميركيين الكبار، إن الإرهاب هو الخطر الأول على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والادعاء القائل إن السعودية (وليس إيران مثلا!) مستفيدة من الإرهاب أو متحالفة معه! وكان رأي شطح أنه ليس من المهم ماذا يعتقد أوباما أو كيري أو المخابرات الأميركية، بل المهم ما يراد إقناع الرأي العام الأميركي به لمصلحة عليا يقدرونها. وهذا الذي كان عليه الأمر عندما غزوا العراق عام 2003 بزعم تدمير أسلحة الدمار الشامل، وزعم مكافحة الإرهاب. وقد اقتنع الجميع بضرورة الغزو وسط الهياج على الإرهاب بعد إغارات أسامة بن لادن عام 2001. وما غير الأمر شيئا اتضاح الخديعة في حملات بوش وإدارته، فالعراق خربت وحدته، وتقاتل أبناؤه، ووقع في يد إيران، وبوش تجددت له ولاية ثانية! إن الأمر الذي ينبغي الاهتمام له ومحاولة فهمه: لماذا اعتقد الاستراتيجيون الأميركيون وقتها أن غزو العراق ضروري؟ ولماذا يريدون الآن إقناع أهل الرأي الأميركيين أن بشار الأسد هو الشر الأصغر في حين يصبح «الإرهاب» هو الشر الأكبر؟! ثم كيف يخطر ببالهم أن السعودية يمكن أن تدعم الإرهاب، ولو لمقاتلة بشار الأسد؟ هنا يقفز شطح إلى استنتاجات واسعة: الأمر يتعلق بالمستقبل العربي، وخارطة الشرق الأوسط الجديد، والذي يراه أن الإسرائيليين والأميركيين والبريطانيين يريدون الضغط على العرب لقبول الأوضاع الجديدة: الاستيلاء على العراق، وطول أمد الحرب في سوريا واليمن، واستمرار التردي في لبنان. والمقصود إبعاد التأثير العربي خلال هذه العملية، ثم إدخال دول الجامعة العربية فيما بعد لإعطاء المشروعية! لقد غاب العرب منذ فترة طويلة فلماذا يحضرون الآن؟ ويتابع قائلا: يحضرون لأن بلدانهم مهددة بالخراب والتفكك، والناس يموت منهم مئات كل يوم، والجهات الإقليمية لا تزال تطمح إلى إعادة الصياغة بالشكل الذي يرضي إيران وتركيا وإسرائيل! وهذه الأمور جميعا يحول دونها شيئان: القتال على الأرض، والتدخل السعودي والخليجي العام لمنع انهيار سوريا. ولأن الأميركيين يحزمون أمرهم بسرعة عندما يريدون، فقد انطلقت الحملة على السعودية وارتباطاتها بالإرهاب (!) وهذا ملف وسخ ليس لأنه غير معقول فقط؛ بل ولأن السعودية تعرف جيدا أخطار الإرهاب لعدة أسباب متداخلة: لأنه موجه ضدها في الأصل، ولأن إيران تستخدمه، ولأن الولايات المتحدة تقوم بوعي بمبادلة أو صفقة كبيرة مع إيران ولا تريد أن يتدخل فيها العرب أو غيرهم فتهدد بوضع السعودية والإرهاب بمنزلة واحدة لكي تترك الأمور والمذابح على غاربها.

لقد كان الدكتور شطح مقتنعا بأن الشهور الأولى من عام 2014 ستكون قاسية جدا على العراقيين واللبنانيين على وجه الخصوص. فقد قامت إيران بكل ما بوسعها في سوريا، وحققت نتائج أهمها إعراض بعض الدول العربية والإقليمية وفي المجتمع الدولي عن مساعدة الشعب السوري. وقد كثر الحديث عن «القاعدة» أخيرا ليس في العراق فحسب، بل وفي لبنان أيضا. وحسن نصر الله الذي وظف نفسه في سوريا ولبنان لمكافحة الإرهاب، سوف يتحرك أكثر من السابق باتجاه العنف، ونسبة ذلك لـ«القاعدة». أما في العراق فإن المالكي سوف يعمل على إخضاع مناطق الحدود مع سوريا والأردن للهدف ذاته، وبالدعوى ذاتها. وفي ظل هذه الحملات العسكرية للاغتيال والقتل، يأمل إيرانيو الجنرال سليماني أن ينعقد مؤتمر «جنيف – 2» فيكون لإيران دور بارز في «الحل» بعد الاستنزاف، كما تأمل أن تحدث في أفغانستان مساومة أميركية – إيرانية حولها تشبه ما حصل بالعراق!

واستنادا إلى التقدير بعد التحليل، ذهب الدكتور محمد شطح إلى ضرورة إبراز الملف اللبناني باعتباره مشكلة مستقلة وذات خصوصيات، وليس جزءا من الساحة التي تسرح فيها الميليشيات الإيرانية وتمرح. ففي لبنان تنظيم مسلح ذو قدرات تفوق فيما يقال قدرات الجيش اللبناني وقواه الأمنية. وهو لا يخضع للمؤسسات الدستورية، بل للحرس الثوري الإيراني، وقد شن من قبل حربا على إسرائيل، وهو يشن الآن حربا في سوريا. وهناك قرارات دولية صادرة من أجل أمن لبنان، ومن أجل إخلائه من الميليشيات المسلحة وهي القرارات 1559، و1680، و1701. وهذا بالإضافة إلى الدستور اللبناني ومقررات الحوار الوطني التي أخذت بالإجماع ومنها بيان بعبدا الذي يقول بالنأي بالنفس وتحييد لبنان في النزاع السوري. وقد صار البيان المذكور جزءا من وثائق الأمم المتحدة. لا بد – بنظر شطح – من حملة دولية بهذا الاتجاه، ولو أدى الأمر إلى اعتبار البلاد محتلة من إيران. وعندما كنا نقول له: لكن أحدا لن يسير إلى هذا الحد معنا في الظروف والاعتبارات التي ذكرتها، كان يجيب: هناك فراغ في المؤسسات، واستيلاء على المرافق، وتوتر في الشارع، وأوضاع معيشية سيئة، واستنزاف للمواطن في كل الاتجاهات. ولا بد من نقطة للبدء، وقد اخترنا في «14 آذار» أن تكون بتشكيل حكومة محايدة للعناية بالمعيشة والأمن، ويقود رئيس الجمهورية حوارا وطنيا في القضايا الكبرى الخلافية. وما اقترحه ينتج بيئة خاصة للعودة إلى الدولة والاستقلال والسيادة وعناية اللبنانيين بأنفسهم ووطنهم، بدلا من استمرار التآكل تحت وطأة التغول من جهة، والاستضعاف من جهة ثانية.

قبل أسبوع على استشهاد الدكتور شطح، كنت أروي في مجلسنا الحكاية الواردة في «كليلة ودمنة» عن الثيران الثلاثة اللاجئة إلى الغابة، والخائفة من اكتشاف السابلة لها. ولأنها كانت ذات جلود بيضاء وحمراء قاتمة وسوداء، فقد قررت التضحية بالأبيض أولا للأسد، ثم بالأحمر. فلما أقبل الأسد في اليوم الثالث على افتراس الأسود، صرخ الثور الملتاع والمخدوع ثلاث مرات: قُتلت يوم قُتل الثور الأبيض! وقال شطح، رحمه الله: ما ذهب الثور الأبيض ضحية لونه كما تظنون، بل ذهب نتيجة التخلي واللون هو الذريعة، وهذا مثل للتأزم العربي وما ينتجه من تخاذلات. لكن المتخلي لتأجيل قضاء اليوم، سينال منه القدر في الغد!

المصدر: الشرق الأوسط