من يرى قلعة الجاهلي لا يعتقد أنها مبنية بغير سواعد الرجال وللرجال، وأنها كانت عيناً على العين في السهد وفي الظلام، وأنها كانت ترساً ودرعاً عن سكانها، حين تلم الخطوب، وحين يكثر الحِمام، ندخلها ونحن نتذكر كم هي شامخة وعصيّة، وعلى رأس مشراف، لها تحركت كتائب وسرايا، وفيها مكث ضباط وجنود على مر السنين والأوقات، تعقبهم أرتال من آليات عسكرية تغلب عليها صبغة اللون الأخضر الزيتوني العسكري، ذكرها الرحالة، ودونت في كتب ورسائل وتقارير القادة والسياسيين الإنجليز، والمندوبين السامين للتاج الملكي البريطاني.

بالأمس احتفت هذه القلعة بنخبة من المتقاعدين العسكريين القدامى، رفاق السلاح والتعب والصبر وسنوات الجَلَد، والذين يتذكرونها قديماً وهي مطلية بالنورة البيضاء، ويعرفون بابها الرئيسي جهة الشمال، لأن الكثير منهم مسك «الزام» عند مدخلها بندقيته «الكند»، و«دريسه» الخاكي والقميص الرصاصي والشماغ الأحمر، والعقال الذي تزين منتصفه بخنجر فضي، وليس لونها الطيني، ولا بابها الرئيسي الآن جهة الغرب معادلاً الشارع العام، لقد بقي أولئك الرجال المتقاعدون يتذاكرون السنوات البعيدة، وكم مكثوا فيها قبل أن تتبدل السرايا والكتائب منها وإليها، إما صوب المنامة أو جهة محطة الشارقة أو نحو الحمراء وجبل الظنة أو المرفأ، تذكروا مكتب القائد العام، و«ميز» الضباط، و«الكانتين»، وأبراج الحراسة الليلية، دائماً الأشياء التي تعيها ذاكرة الشباب تبقى طرية كما هي في الذاكرة، كان هناك كثير من الحنين لا يعرفه إلا من يكابده، وكان هناك كثير من الفرح برؤية زملاء الزمن، ورفاق السلاح في أطوار حياتهم الخريفية، لِمَ تعلو الضحكة، وتخرج من مخبّأ خاطرها كلما شاهدت أحداً من زمن جميل ولى، عليه مسحة من وقت الطفولة والصبا والشباب والذكريات التي لا تمحى؟

كانت أمسية جميلة ودافئة وصادقة مثل قلوب الأولين، وطيبتهم، أمسية فيها الكثير من العتب لعدم التواصل والاتصال، وكثير من الاعتذار لسرقة الحياة منا وقتنا، وكثير من الأسى والتحسر لأن كثيراً من أولاد وأحفاد المتقاعدين لا يعرفون بعضهم بعضاً، كانت هناك دمعة باردة جامدة في محجر العين تريد أن تطفر من محلها، منعتها هيبة الرجال، وانضباطية لا تخذلهم أبداً، فقط كان الود، والمحبة، وأشياء كثيرة مشتركة طحنوا معها الملح، وتقاسموا كسرة الخبز، وقطرة الماء من «المَطّارة»، وحفرة الخندق ومتاريسه، وتبادلوا البطانية الصوفية الرمادية الوبر، وبشارة «المشاهرة» آخر الشهر، وخبر الإجازة الرسمية لرؤية الأهل.. لا بد من تحية عسكرية لازمة وواجبة لجباه أولئك الرجال الذين هم اليوم متقاعدون، لكنهم يحتفظون بكل أشيائهم القديمة تحت أهبة الاستعداد، فهم جنود دائمون للوطن، ومن أجل الوطن، وفي شفة القائد رئيس الدولة رمز الوطن.

كان تشريف الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، والشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، والشيخ فيصل بن سلطان القاسمي، أول رئيس أركان للقوات المسلحة، طيب الأثر في النفوس، وأضفوا على المكان ومن فيه شيئاً من تذكر الجميل، وعدم نسيان التضحيات، وما فعله أولئك الرجال العسكريون المتقاعدون في زمن خدمتهم وتفانيهم وحياتهم العملية، والتي بدأت مع الكثيرين منهم من تلك القلعة التي ما زالت تعني لهم الكثير، يكفي أن تقول: قلعة الجاهلي، فتشتد الصدور، وترفع الرؤوس، وتلزم الوقوف وقفة استعداد عسكرية انضباطية يحملونها معهم إلى الأكفان.. كانت الأمسية بمثابة وسام على الصدر جهة الشمال!

المصدر: الاتحاد