علي الظفيري
علي الظفيري
كاتب وإعلامي سعودي، وُلد في دولة الكويت في 19 أكتوبر 1975. حصل على بكالوريوس علم نفس تربوي من كلية التربية في جامعة الكويت عام 1997، ثم دبلوم إعلام من جامعة الملك سعود في الرياض عام 1999. عمل في جريدة الوطن السعودية في الفترة من 2002 إلى 2004، وإذاعة وتلفزيون المملكة العربية السعودية ما بين عامي 2000 و2004. يعمل حالياً كمذيع ومقدم برامج سياسية في قناة الجزيرة القطرية.

يا ظلام السجن..

آراء

لم يحسم تعريف السجن بعد، ما زالت هذه المفردة المخيفة تحمل في طياتها الكثير، يمكن لـعالم اللغة العربية أن يغرف منها ما يشاء، شرط أن يغوص في علوم النفس البشرية والاجتماع والسياسة، ولا يكتفي بفهم الحروف، وشرط أن يتقن معنى الكرامة والعزة والعجز المطلق عن الصمت في وجه الظلم، مخطئ من يتوهم السجون جدرانا وأغلالا وأسوارا كبيرة وظلاما دامسا، فـهذا الكائن التاريخي له قلب وروح وعين ترى، وله صوت يملأ الدنيا ضجيجا رغم السكون الشديد الذي يخيم عليه، وحده يملك القدرة الخارقة على بعث ما يموت في نفوس البشر، إنه الوحيد الذي يختصر المسافات الطويلة، وهو يفعل ذلك دائما وأبدا بلا كلل!.
مع أول لحظة استبداد بشرية انبثقت فكرة السجن، يوم كان الإنسان الأول عاجزا عن فهم أخيه الإنسان، ومع لحظة العجز الأولى عن إدارة الشأن البشري بحضارية واقتدار وُلِد السجن الأول في التاريخ، تم تدجين الفكرة وأنسنـتها لاحقا عبر تنظيم عملية الدخول والخروج ومدد البقاء وأحكامها وأسبابها، لكنها انحازت دائما لعدم القدرة على الحوار والتفاهم وقبول الآخر والاحتكام للعقل والمنطق، كانت ملجأ العاجزين والمستبدين والواهمين الغارقين في أحلام السلطة المطلقة، أولئك الذين لا قدرة لهم ولا طاقة على رؤية الآخر، تستفزهم الكلمة المخالفة وإن تأدبت وتأنقت وحامت حول الحمى، من قال إن الإنسان الأول كائن تاريخي!.
قائمة السجناء النبلاء طويلة جدا، حتى يخال المرء أن السجن لم يوجد سوى للعظماء من بني البشر، من سيدنا يوسف عليه السلام في سجون فرعون إلى نيلسون مانديلا في العصر الحديث، مرورا بأحمد بن حنبل وابن رشد وغاليليو وأبي فراس الحمداني والمعتمد بن عباد وغاندي ونهرو وسعد زغلول ودويستوفسكي ولوممبا وجيفارا وعمر المختار والعقاد وأحمد ياسين، وهذه القائمة المختصرة تكفي لفهم جانب مشرق من التاريخ البشري، وفهم معنى السجن، فهمه على النحو الصحيح!.
من سجن الباستيل إلى سجون أبوغريب وغوانتانامو اشتهرت سجون كثيرة، حملت شهرتها مفارقات عديدة، أهمها أن ما بقي في الذاكرة هو الفعل الشائن للسجان وصورته القبيحة وتاريخه الفاضح في القمع والاستبداد وانعدام الأخلاق، لكن أسماء أصحابها وأمجادهم الآنية وقدرتهم المطلقة والمؤقتة على الظلم زالت مع زوالهم، ولم يبق من ذكرهم شيء، بينما خرج السجناء من تلك الأقبية المظلمة ليكتبوا التاريخ، وكانت لحظة السجن فارقة في مجريات الأحداث، وما بعدها، اختلف تماما عما قبلها، يحدث دائما وبشكل غريب!.
التعددية والقدرة على إدارتها وتنظيمها وحمايتها تمثل سمة رئيسية في إنسان ودولة هذا العصر، تجاوز العالم –أو معظمه– قضية الخوف من الآراء والأفكار، أصبح متاحا أن تختلف لأبعد مدى مع الحكومات والقيادات طالما أن الاختلاف منظم ومحكوم بإطار قانوني وفق الأعراف المتفق عليها، ورغم المساحات الشاسعة لدى كثير من الدول والقدرات المالية والفنية على بناء السجون القوية المنيعة، إلا أنها اختارت أن تنحاز لفكرة ومفهوم العدل والمساواة وحق التعبير والاختلاف، وفــّرت طاقاتها وسجونها للشواذ من البشر، أما الآراء والأفكار فأوجدت لها البرلمانات ووسائل الإعلام والمنابر الحرة لتفعل عبرها ما تريد، إدراكا منها أن خلاصة هذا الاختلاف والتعدد تمثل خلاصة الحضارة الإنسانية التي بلغها البشر في عالمنا، أعفت نفسها من عبء أجهزة مراقبة الكلام والأفكار والنوايا، وأخلصت في بناء الجيوش والجامعات والمختبرات والمصانع والمطارات والقطارات، باختصار شديد، أمعنت في مشروع الدولة وكبحت جماح الكلب البوليسي المتوثب في داخلها!.
قال المتنبي يوماً:
كن أيها السجن كيف شئت فقد.. وطّنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصةً.. لم يكن الدرّ ساكن الصـدف

صحيفة العرب القطرية