أزمتنا في الإعلام العربي!

آراء

انطلقت صباح أول من أمس في دبي فعاليات الدورة الـ 12 من منتدى الإعلام العربي. وهي مناسبة يجتمع فيها أكبر حشد من الإعلاميين العرب، إذ تقدر أعداد المسجلين لهذه الدورة بما يزيد على الـ800 إعلامي وإعلامية.

في معظم المنتديات الإعلامية، تشاهد أعداد الحاضرين خارج قاعات الجلسات الحوارية تفوق كثيراً عدد الحضور داخل تلك القاعات. فمناسبات مثل هذه تتيح فرصاً ثمينة لزملاء المهنة أن يلتقوا لتبادل الأفكار، وربما التهم، حيال شؤون المهنة وشجونها. لكن المنتدى هذا العام يأتي في ظل ظروف صعبة على الإعلاميين العرب.

فالإعلامي العربي اليوم صار، بشكل أكثر وضوحاً، أراد أو لم يرد، جزءاً من الحدث ولاعباً سياسياً مع رواد اللعبة المعقدة وشديدة التناقض. ذلك عائد، في أحد أوجه المشكلة، لغياب ثقافة استقلال الإعلام في عالمنا العربي. طبيعي جداً ألا يشكل الإعلام العربي «سلطة رابعة» في بيئة تتداخل فيها بقية السلطات وأحياناً تتقاطع في أدائها ومصالحها.

وطبيعي جداً أن يصـــبح الإعلامي صاحب «موقف سياسي» منحاز في ثقــافة أسست لصحافة الأحزاب وفي بيئة سياسية ســــيطر فيها السياسي على معظم حراك المجتمع واستخدم الإعلام أداة مهمة من أدواته في الترويج لنفسه وزيادة مكاسبه ومحاربة خصومه.

وقبل ذلك، ينشغل الإعلامي العربي -في الغالب- بهمومه المعيشية وبمخاوفه على مستقبل أبنائه فيصبح -كغالبية مَن حوله- موظفاً حذراً على وظيفته ولتحترق كل شعارات «الحرية» و«الاستقلالية» و«السلطة الرابعة» إن كانت ستهدد قوت يومه ومستقبل أطفاله! لا يمكنك أن تكون مثالياً في بيئة غير مثالية. وكيف لك أن تكون محايداً ومستقلاً إن كانت الطائرات تقصف بيتك والرصاصة تطوف حول رأسك كل ساعة؟ ولو أردت أن تكون فعلاً صاحب «مهنية» تلتزم بأصول المهنة، بما تتطلبه من حياد واستقلالية، أين هي «المؤسسة» التي سترحب بحيادك وآرائك المستقلة؟ وفي ضوء «الروح الثورية» التي سادت المشهد العربي خلال السنوات الثلاث الماضية، صارت النظرة للآراء والأفكار والمواقف المتعلقة بأحداث العالم العربي ذات روح «مؤدلجة».

لم يعد الرأي، في غالب الأحوال، «وجهة نظر» قابلة للنقاش أو الرفض، فما إن تقول برأي ينتقد ما آلت اليه أحوال «الربيع العربي» -على سبيل المثال-، تكون عند قطاع واسع ممن حولك مجرد «عميل» لسلطات قائمة «تحارب الثورات بكل ما أوتيت من نفط وسياسة»! ثمة تأزم يلوح في أفق «الرأي العربي». وقطعية «الأبيض والأسود» باتت أكثر وضوحاً تجاه ما يُكتب ومن يكتب. يُصادر رأيك لمجرد الاختلاف معه. ويتهمك من يختلف معك بأقبح التهم فقط لأنك تراجعت عن رأي سابق أو لأنك انتقدت جماعة استغلت خطابها الديني لتمكينها سياسياً وركبت ظهر «الديموقراطية» لتحتكر السلطة.

ولو سألت جماعة الإخوان المسلمين في مصر عن موقف الجماعة مما يحدث اليوم في سورية لاتهمت بمعاداة «الإخوان» ولأطلقت مواقع التواصل الاجتماعي ضدك بذاءاتها وعفنها! وإن حذرت مجدداً من «تسييس الدين» لسارعت بعض جماعات الإسلام السياسي ومَن في حماها، إلى تكفيرك وإقحامك في دائرة من تسميهم، بقصد التشهير والإساءة، بـ «العلمانيين» و«الليبراليين»! وفي عصر «الربيع» لا بد من أن تكون «معي» وإلا فإنك حتماً «ضدي»! في بيئة مثل هذه، كيف ننتظر من الكاتب أو الإعلامي أن يمارس شيئاً من الحيادية أو الموضوعية؟ وما هي «الحيادية» و «الموضوعية» إن كان الكل ينطلق في مواقفه وقناعاته وآرائه من فكرة أنه هو «الصح» وغيره «الخطأ»؟

الإعلامي العربي هو ابن بيئته. تناقضاته هي امتداد لتناقضات محيطه. وهو، في ظروف كثيرة، ضحية ألاعيب السياسة وصراعاتها وتضارب مصالحها. الضحية في كل الأحوال هي «فكرة» أن يحقق إعلامنا بعض الاستقلالية التي تجنبه تجاذبات السياسة وصراعاتها. لكن التحديات أمام الإعلام العربي كثيرة ومعقدة.

ولو سألنا: من يوجه الرأي العام في الشارع العربي اليوم لربما وجدنا أن الإعلام، بقنواته التقليدية، يفقد شيئاً من تأثيره كل يوم. لقد فتحت قنوات التواصل الاجتماعي اليوم أبواباً جديدة للاعبين جدد يؤثرون، بدرجات متفاوتة في تشكيل وتوجيه الآراء والمواقف.

وهنا ينبع تحدٍّ جديد أمام الإعلام العربي ليس فقط من ناحية المنافسة في الوصول للجماهير، ولكن في محتوى ما يصل أيضاً. الأخطر أن يدفع المجتمع ثمناً لهذا السيل الهادر من الأكاذيب والإشاعات وأحياناً الفجور عبر ما يصل من تلك القنوات. ولو ناشد أحدنا أن توضع معايير وضوابط للنشر على الإنترنت لسارع البعض إلى اتهامه بالتحريض ضد حرية التعبير والدعوة لتكميم الأفواه.

ثم تأتي بعض مؤسسات الرقابة الرسمية في الوطن العربي لتستغل هذه الفوضى فتغلق نوافذ جديدة ومهمة بحجة حماية المجتمع من التضليل والمهاترات والفوضى. وتبقى الضحية -في كل الأحوال- «فكرة» الإعلام الذي يمكن أن يبقى فعلاً على مسافة متساوية من كل الأفكار والقضايا في محيطه، فكرة ما أحوج مجتمعاتنا اليوم لها… لكن ذلك حلم بعيد المنال وقد هيمنت «الفوضى» على فضائنا ومشهدنا العام!

 المصدر: صحيفة الحياة