جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

المنشغلون بأنفسهم.. والمشغولون بغيرهم

آراء

في خضم جدولك اليومي المزدحم، هل يمكن أن تأخذ موعداً مع نفسك؟

يُنسب إلى أفلاطون أن سقراط الحكيم هو أول من استعمل اقتباس «الانشغال بالذات»، حينما كان أهالي مدينة أثينا القديمة منشغلين بالأمور السياسية والاقتصادية، ولم يكن لهم عين الاهتمام بذواتهم وشؤون معيشتهم، فدعاهم للعودة إلى أنفسهم. ما أراده الفيلسوف الأكبر هو مسألة ترتيب الأولويات في حياتنا، ذلك لأن الكثير من انشغالاتنا في هموم وأمور الحياة المختلفة تحدد تكوين الشخصية، وترسم الاتجاهات المستقبلية والفكرية للفرد، هذا بالإضافة إلى أنها تأخذ حيزاً كبيراً من تفكيرنا، ومن الطبيعي أن تنهك أرواحنا، إذ عندما نحمل الآخر فوق أكتافنا حينها تتباطأ حركتنا، وتتركز طاقتنا على الانشغال بالأثقال الجاثمة على كواهلنا، فننسى في تلك الزحمة أنفسنا.

هناك فرق بين مشاغل الحياة الضرورية، وبين الانشغال بأشياء هامشية، نعطيها أكبر من حجمها وتأخذ الكثير من وقتنا. وكما يقول أهل الفلسفة: «هناك فرق بين الأنا والآخر».

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نستطيع أن نكون بمعزل عن قضايا الناس وهموم الآخرين؟ وهل تستحق أنفسنا كل اهتمامنا؟

أعجبتني مقولة غاندي: «كن أنت التغيير الذي تريده في العالم»، لكن كيف نستطيع أن نغير أنفسنا إذا لم نهتم بها ونوليها حقها من العناية والرعاية؟

في عالم الثقافة المحلية نجد أن الكثير من المثقفين أو من يطلقون على أنفسهم هذا اللقب، منشغلين كل الانشغال بأمور غيرهم، فتأخذ المناقشات بصغائر الأمور، أو بما لا يعنيهم الكثير من وقتهم وجهدهم، هذا فضلاً عن المماحكات والجدل العقيم «عطال على بطال»، كما يقولون، وكأن الثقافة هي تسجيل حضور، وإثبات حجة، أو الإدلاء برأي، ذلك لأن الفهم البسيط لمعنى الثقافة يجعلهم في وسط معركة مفتوحة، وكما نعلم، تستحيل مغادرة أرض المعركة من دون جروح، حتى لو دخلتها بغرض فعل الخير أو القيام بدور المصلح.

لكن هل تعنى الثقافة بالجدل والأفكار المطروحة؟ هل تعنى بالنقاشات من كل جانب لإثبات حقيقة الرأي أو حتى التفوق على الطرف الآخر؟

أقول للأسف إن الثقافة الحقيقية لا تعنى إلا بالنقاشات الإنسانية والأفكار الكبرى، وما عدا ذلك يبقى محض ثرثرة لا طائل منها، ذلك لأن الثقافة تشق دروبها بتؤدة محببة، فتتسلل إلى الذوات بخفة الضوء ورشاقة الفجر، بمعنى أنها تحفر قنواتها الوردية في حياة الناس خلسة، أي بقوة العادة، وليس بالصراخ والضجيج.

مثل الثقافة يا سادة مثل المدحلة، تأخذ كل شيء في دربها، تسوي الثغرات، تمسح النتوءات، حتى الأفكار الظلامية أو العنصرية تكنسها ببطء شديد، كما أنها تئد بالمهد كل ما هو غريب أو شاذ، ولا ينجو من سطوتها من تسربل بعباء فضفاضة عليه، فالمثقفون المزيفون تأخذهم بعجلتها وتسويهم بالتراب، ومن ثم تكمل مسيرتها بدلال، كما العروس، غير عابئة بالأصوات النشاز، ولا بالمهرجين الفاشلين، أو الحاسدين الذين يغارون من الناجحين. باختصار الثقافة ليست معنية بالنباحين أو الندابين طالما هم بعيدون عن فعل الثقافة بالمعنى الإبداعي؛ لأنهم إذا ما اقتربوا من جوهرها الحقيقي انكشف القناع، وحينها تتناولهم المدحلة، فتهرسهم من دون رحمة أو أدنى شفقة.

مع إسهاماتك المتعددة في كل المجالات التي تمليها الثقافة عليك، باعتبارك أحد أبنائها المخلصين، ومع انغماسك مرغماً في النقاشات الدائرة على كل المستويات في أحيان كثيرة، هل يبقى لك المزيد من الوقت لنفسك؟ هل يبقى لديك المزيد من الجهد لتطوير ذاتك من خلال تنمية مهاراتك وخبراتك، أو تجديد أفكارك؟

يقول صاحبي: في هذه الحياة هناك أولويات والتزامات تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، فمن يصل أولاً يفرض حضوره على وعيك، وتكون له الأولوية على حساب غيره، ما يعني أنه لا خيار لك في ذلك.

قلت له: فكر بنفسك أولاً!

المصدر: الإمارات اليوم