تعثُّرٌ بالآخر

آراء

خاص لـ هات بوست:

يُدرك الإنسان في تمرحل عاطفته أن تعاظم الدهشة في مهد العلاقة نذير مهلكة لإمكان استمرارها، ذلك أن ما يبدأُ مُشتعلًا إنما هو حريقٌ يُحرِقُ ويحترق، وكلّ ما يحترق سرعان ما يترمّد. وأنه لطالما كانت الانطباعات الأولى فاسدة، لأنها تُماثل بدائيّة الإدراك الإنساني، وأي بدائيّة هي تلك التي تقترن بانطباعات المحبّة في مهدها.

خطيئتنا أننا نقبض الأكفّ التي تمتد إلينا ونحن نشهقُ فجيعتنا، إن أقبح ما قد يُقدِم عليه إنسانٌ ما ويجورُ فيه على نفسه، الجَوْر الموجب للندامة، هو أن يتعثّر بآخر يدفنُ روحه معه، ويعتقد أن دفن روحه في ذلك الآخر إنّما هو خَلاصه ونجاته، وأنها هذه هي المحبّة التي ينجو بها الإنسان.

ونحنُ لا ندرك ذلك إلَّا حينما نختنق من دفن أرواحنا؛ الأمر الذي يتطلب منا بعض المسير، لأننا لم نتحصّل دراية التجريب بعد.

لكن أرواحنا التي استماتت لتحفظ ديمومتنا في هذا الوجود تنقاد إلى سُنّة بقائها فتنفُر نفرتها التي تقاوم دفنها، غَيْرَ أنّ هذه النَّفرة التي نعتقد أنها يقظتنا؛ تورّثنا فجيعة أرواحنا المفجوعة، ويا للإنسان الذي يكابدُ وصوله إلى كَمَدهِ ثمّ يُكابدُ فِراره منه.

كثيرة هي دوافع الإنسان التي تجعله يتعثّر بآخر، ذلك أن تعالق الإنسان بالآخر إنما هو محاولة يائسة في البحث عن نعيم الإنسان في الإنسان، لكن الشقاء الذي يكون كل حصيلته مع آخر، يجعله يُدرك أن أسمى مسلكٍ للتَرَوْحُن الذي يبحث عن نعيم الإله إنما لا يرتعُ إلَّا في نفس الإنسان نفسه، فكيف بأيّ بحثٍ عن أي نعيم آخر يعقب تحسُّسنا لنعيم الإله، وأنه لا سَكَن للنفس عداها، ولا لَوْذ إلَّا إليها، ولا ملاذ إلَّا هي.

تجرُّ ذاكرة الروح أحمالها وأعباءها وفجيعتها في سقفها الذي ينهدّ وسمائها التي خانتها كل الأعمدة، في كل مرّة تنطفئُ نار المَيْل، وينكفئ الحسّ على الحسّ، وتصفقُ الكفّ كفّها في كفاية الكفاية، ونهاية المحاولة التي كثّر صدقها في الروح وجع الروح. ولا يعود للوَهْب أي جدوى أو أثر يصونه ويُخلّده.

ويا للإنسانة فينا حين يتكثّر فيها السموّ من كثرة مُمحِّصات روحها وأوجاعها؛ ويعسُر على كل روح لم تبلغ مبلغ تساميها اللحاق بها والتراقي إلى عليائِها، حيث صورة النقاء الأولّ لصميميّة التحام الإنسانة بالإنسان. عذاباتها كلّها مُكتنفة في فوقيّة معانيها التي هي حصيلة أيامها الموجوعة، وكم يدنو العالم بخلائقه عنها، ولا أحد منه يسمو إليها، لأن لا أحد يُدركها في شِدّة فرادتها، ويتعثّر التجريب معها لأنها تفوق كلّ التجريب، فَلم تكُن إلا لغاية الأبديّة، وهذا سرّها الغارق في محيط آنيّتها، حاضرة دومًا في غياب الخلائق كلّهم، تُنهِضها العثرة وتنفضُ نهضتها بالعثرة، ثمَّ تتأبَّد في عزوبتها المُتألِّهة لأنَّ لا شيء يُأَلِّه الطين مثل وحدته.