تونس الخضراء… هل تعود؟

آراء

عقد مضى من الزمان مرت فيه تونس الخضراء بجميع ألوان الدهر وصروفه إلا الأخضر، فمرت بالأحمر القاني دماءً وإرهاباً، وعبرت الأسود القاتم فوضى وتخريباً، وقد ضمنت استمرار ذلك كله «حركة النهضة» الإخوانية تحت قيادة المراقب الإخواني العتيد راشد الغنوشي، وحين بلغ السيل الزبى، وكادت الدولة التونسية تنهار، انتفض الشعب التونسي مع الرئيس قيس سعيد، بقراراتٍ تاريخيةٍ قد تعيد تونس خضراء مجدداً إذا نجح المسعى وتحققت الغاية.

حدثٌ مهمٌ في ظل انتعاش «الزمن الأصولي» في المنطقة، وهو يسير عكس اتجاه الأحداث، ويحتاج لكثيرٍ من المواقف السياسية المؤيدة، بخاصة من الدول العربية القائدة والرائدة التي واجهت «الربيع الأصولي» أو ربيع «استقرار الفوضى»، وراهنت على «استقرار الدولة» ووعي الشعوب، ورفضت الحلف الأصولي مع اليسار الليبرالي الغربي، ونجحت في رهانها، وعادت مصر، واستقرت البحرين، وتوقف المد، وإنْ إلى حين.

بدا الرئيس قيس سعيد، منذ إعلانه اضطراره لإنقاذ الدولة التونسية وإعادة بناء المنظومة السياسية في البلاد، وما تلاه من قراراتٍ حازمة، قانونياً محترفاً وسياسياً رصيناً يسعى لاستقرار الدولة وفرض سيادتها وهيبتها، ويعيد ترسيخ الأمن وتفعيل القانون، لا مجرد ثوري متحمس يطلق الشعارات الجوفاء والمزايدات الفارغة، علاوة على أن يكون «انقلابياً» كما هي التهمة السخيفة التي تبنتها «حركة النهضة» و«قنوات الأخبار» الداعمة لها وبعض «الدول» المعروفة بدعمها لربيع الأصولية والفوضى في العالم العربي من قبل.

خطاب «حركة النهضة» الإخوانية في ردة فعله عاد إلى الخطاب القديم نفسه إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، فهو يهدد من طرف خفي بالفوضى والإرهاب ويهدد أوروبا بنصف مليون مهاجر، كما تحدث الغنوشي الذي يهدد الجميع بعودة «النظام القديم»، ونسيت «النهضة» ونسي الغنوشي أنها هي «النظام القديم» حالياً، وهي المتسلطة الظالمة الفاسدة، وهي السبب الأكبر في دفع الدولة التونسية إلى الفشل.

تحرك الشعب التونسي بشكل واسعٍ تأييداً ودعماً للرئيس قيس سعيد الذي كان تحركه من البداية استجابة لمطالب هذا الشعب وطموحاته، وامتلأت الشوارع وانطلقت الشعارات المؤيدة للرئيس والساخطة على الفاسدين والمتطرفين، وقد وقف الجيش التونسي والمؤسسات الأمنية موقفاً موحداً ومتماسكاً مع الرئيس والشعب التونسي، وتوحيد الجبهة الداخلية بالغ الأهمية في مثل هذه اللحظة التاريخية.

بعد عقدٍ من الزمن أصبح الشعب التونسي يعرف خصومه جيداً، وكانت بعض الشعارات التي أطلقت لافتة في مضمونها فقد أخذت مجموعة من الشعب تردد في الساحات «يا غنوشي يا سفاح يا قاتل الأرواح»، في تعبير يكثف خبرة هذا الشعب ومعرفته الجيدة بمن أوصل تونس الخضراء لهذا المصير.

المواقف الدولية جاءت متزنة، وابتعدت عن الحماسة التي اندفعت خلفها قبل عقدٍ من الزمن، فعبرت الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول عن تفهمها للسياسات والقرارات التي اتخذها الرئيس التونسي، ورفضت تهمة «الانقلاب» السخيفة علناً ما يشير إلى عودة للعقلانية والواقعية السياسية بعد تجربة مريرة حدثت قبل عشر سنواتٍ ودفع ثمنها الملايين من البشر في الدول العربية.

هل هذا يعني أن «حركة النهضة» انتهت؟ وأن جماعة «الإخوان» في تونس ذهبت بلا رجعة؟ أبداً، فالحركة ما زالت موجودة وفاعلة و«الإخوان» ما زالوا ناشطين هناك، ولكنها تعني أن تونس أمام فرصة تاريخية للانعتاق من ظلام الحكم الأصولي ووهاد الفوضى إلى بناء مستقبلٍ أفضل للدولة والشعب، وهي خطوة أولى مهمة في الاتجاه الصحيح، ومن الخطأ والخطل اعتبار الخطوة الأولى نهاية للأصولية ونجاحاً للدولة.

منذ اغتيال حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان» في 1949، وضرب الجماعة في مصر بعد حادثة المنشية 1954، وبعد ضرب تنظيم سيد قطب في 1965، وبعد كل حادث من هذه الحوادث، كانت الحماسة والعجلة تأخذ بعض المثقفين والصحافيين فيعلنون «نهاية الإخوان» والقضاء على الأصولية والإرهاب، ثم حين تعود الجماعة إلى قوتها وخطورتها لا يراجعون أنفسهم وأفكارهم، بل يقلبون الصفحة وينطلقون من جديد معتمدين على قصر ذاكرة الجمهور، وهو ما منع من تراكم وترسيخ وعي مجتمعي بطبيعة هذه الجماعات الآيديولوجية وقلل من شأن قدراتها التنظيمية والاقتصادية، وهو ما ساهم في عودتها مرة بعد مرة.

تونس أمام مهمة صعبة ومعقدة وستستمر لسنواتٍ مقبلة، والشعب التونسي بحاجة ماسة لإعادة تفعيل القوانين وفرض هيبة الدولة وفتح الملفات المغلقة لسنواتٍ، والإشارة الواضحة لكل جريمة وكل مسؤول عنها ليعرف الناس ما كانت تتم تعميته وتضليل الناس حوله في قضايا مصيرية في حياة الدول والشعوب.

يتذكر الجميع أنه في لحظة «الربيع العربي» بمصر كانت الجرائم الإرهابية ترتكب ضد المواطنين والمؤسسات ورجال الأمن ومقراته، وكانت تتم تحت غطاء الثورة لنشر الفوضى وزعزعة كيان الدولة، واليوم تعرض المحاكم المصرية، وبالتفاصيل، كيف خططت جماعة «الإخوان» لكل جريمة ومن أمر بها ومن شارك في تنفيذها، وتصدر الأحكام المبرهنة بالأدلة القاطعة، وهو ما يجب أن يتم في تونس إن أرادت العودة لدخول التاريخ مجدداً.

الفساد العريض والإرهاب ونشر الفوضى جرائم كبرى، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وتركيز الرئيس سعيد على استعادة الأموال المنهوبة هو واحدٌ من العوامل المهمة التي توضح للشعب أنه عازمٌ على تصحيح المسار وإعادة بناء الدولة.

السعودية قدمت دعماً كبيراً للدولة التونسية لمواجهة جائحة «كورونا»، ووزير الخارجية السعودي، زار تونس والتقى الرئيس سعيد، وفي بيان الخارجية السعودية تم التأكيد على أنها «تحترم كل ما يتعلق بالشأن الداخلي التونسي وتعده أمراً سيادياً، لتؤكد وقوفها إلى جانب كل ما يدعم أمن واستقرار الجمهورية التونسية الشقيقة، كما تؤكد ثقتها بالقيادة التونسية في تجاوز هذه الظروف، وبما يحقق العيش الكريم للشعب التونسي الشقيق وازدهاره، وتدعو المجتمع الدولي إلى الوقوف إلى جانب تونس في هذه الظروف لمواجهة تحدياتها الصحية والاقتصادية».

أخيراً، فالدعم السعودي لتونس قديم منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز، وتحدث الرئيس التونسي الباجي السبسي، عن ذلك في قناة «العربية» موثقاً للتاريخ بالقول: «قال الملك عبد العزيز لبورقيبة لا تفعل مثل بقية العرب.. العرب يتجاهلون الخلافات ثم ينهزمون، وقال له: إنه لمجابهة فرنسا عليه باعتماد خطة الكر والفر والمراحل».

المصدر: الشرق الأوسط