جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

كلاي والذاكرة الجمعية

آراء

يقول شقيق الراحل، محمد علي كلاي، إنه أوصى أن تُكتب على قبره مقولة للقس الراحل، مارتن لوثر كينغ، يقول فيها: «حاولت أن أحب أحداً.. أن أحب الإنسانية وأخدمها.. حاولت فعلاً أن أطعم الجياع وأكسو العراة».

حتى تصل لفهم أفضل للحياة وللمتغيرات من حولك؛ تحتاج أحياناً إلى تجربة عميقة، تجربة تهزك من الأعماق، وتنسف كل ما أنت عليه من مفاهيم أو ما كنت تحسبها قيماً إنسانية نبيلة، فتجعل كلمات، مثل العذاب والفقد أو الموت والغياب الأبدي؛ تعني لك شيئاً مختلفاً، شيئاً مغايراً لِما اعتدت أو اعتادت الجماعة عليه. تقترب منك الحياة وتدنو منها، ترمي لك بطعم، فما إنْ تحاول الإمساك به حتى يبتعد. والقاعدة تقول: حتى تفهم أكثر، لابدَّ أن تحاول ثانية وثالثة حتى تتمكن من الإمساك بالمعنى الحقيقي لذاك الطعم.

مات، أول من أمس، أسطورة الملاكمة، محمد علي كلاي، بعد خمسة وثلاثين عاماً من اعتزاله، قضى معظمها يصارع مرض الشلل الرعاش، الذي لا علاج معروفاً له حتى الآن. ويقال إنه عاش بصراع قاسٍ ومرير مع الموت، لكن الواضح أنه كان في صراع مع الحياة. كان يريد أن يفهم بعمق بعض أسرارها ومعطياتها، وكعادتها مع الجميع؛ أعطته فسحة من العمر، كما أعطته الشهرة والأضواء والكثير من المال، وأعطته أيضاً المرض الذي لا علاج له!

أن تعتزل وأنت بطل، هذه قصة تستحق أن تروى، لكن أن تعيش وتموت بطلاً، فهذه حكاية خالدة كصاحبها!

هناك الكثير من قصص النجاح حولنا، وكما نعلم أن لكل نجاح ضريبة مفروضة لا نعرف موعد استحقاقها، أحياناً ندفعها مقدماً، وفي أحيان أخرى ندفعها لاحقاً.

المجتمع الأميركي قبل التعديل، أقصد قبل حقبة الستينات، أي قبل تطبيق القوانين الاجتماعية، التي تفرض العدالة والمساواة، وتحث عليهما من دون تراخٍ أو لين؛ كان مجتمعاً مختلفاً جداً، فلم تكن للأقليات والملونين حظوة واضحة في النسيج الاجتماعي العام، ما يعني حتماً أن نصيبهم في البحبوحة الأميركية محدود، وربما محدود للغاية، ذلك لأن طرق النجاح لم تكن سالكة ومريحة أمامهم، وأن تكون من الأقليات وناجحاً بمقاييس النجاح الأميركي، فهذا يعني أنك شققت طريقك بصعوبة وسط عقبات كأداء من المنافسة الشرسة، ولا فضل لانتمائك العائلي أو الواسطة التي تجعل، في غفلة من الزمن، كل من لا يستحق النجاح يكون ناجحاً رغم أنف المنافسة وقيم العدالة.

محمد علي كلاي سدّد بحرفة الخبير المتمكن ضربة قاضية للقيود والتراث العنصري في آن واحد، حيث فهم مبكراً أن النجاح يحتاج ثباتاً، والاستمرار فيه يحتاج إلى إيمان وفهم مختلف. لقد عاش كلاي في زمن كانت فيه العدالة وجهة نظر للأقوياء، ورغم ذلك نجح وحافظ على النجاح حتى أصبحت العدالة للجميع.

العالم اليوم لا يتذكر الهزائم التي مني بها بطلنا، وإنما يتذكر انتصاراته وجوائزه، يتذكر النجاح والمركز الأول. هكذا هو شأن الذاكرة الجمعية في كل زمان أو مكان، تتذكر من يصل أولاً، ويستطيع المحافظة على مركزه أو نجاحه فقط.

دائماً يتردد في النهاية هذا السؤال: هل تعبأ بنا الحياة؟ وأتمنى أن يكون بطلنا عرف قبل الرحيل الإجابة عن هذا السؤال!

يقول صاحبي: عالمنا صعب وقاسٍ، ينسى بسهولة كل الذين يحاولون الوصول بجهد، ويتذكر فقط الذي وصل أولاً!

قلت له: لا تعليق

المصدر: الإمارات اليوم