لنحطم أصنامنا

آراء

خاص لـ هات بوست:

طُبع في ذاكرتي مذ كنت صغيرة في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي، درس في كتاب القراءة، إذ يدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء ويودعها ليقاتل أعدائه، وهو خائف إن قتلوه أن يمثلوا بجسده، فتقول له جملتها الشهيرة “إن الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ”، يذهب ويُقتل ويُعلق جسده على جدار الكعبة، إلى أن تمر أسماء ذات يوم وتقول “أما آن لهذا الفارس أن يترجل”.

بغض النظر عن صحة التفاصيل، كغيري من أقراني تعاطفت في حينه مع الموضوع لدرجة كبيرة، ومما زاد في التعاطف كون أسماء بنت أبي بكر الصديق، صاحب رسول الله (ص) وهي من حملت الطعام لهما في طريق الهجرة، كما تعلمنا في دروس سابقة، لذلك من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهن القارىء الصغير أن من قتل ابنها ومثَّل بجثته لا بد أنه من المشركين أعداء الإسلام، أو من الروم أو الفرس، ولا يمكن بأي حال أن يكون مسلماً، خاصة وأن مسلمي ذاك العصر هم مثال للورع والتقوى، وأهل “خير القرون”.

أفعال الحدث في الدرس بنيت للمجهول، ولن يقل لك أحد أن الطرفين مسلمان، القاتل والقتيل، تنازعا على السلطة بشكل أو بآخر، بدرجات متفاوتة من الأحقية والظلم والقسوة، وسيغفل الدرس أن الحجاج قد رمى الكعبة بالمنجنيق، وسيبقى الموضوع تحت التغطية ما لم تهتم شخصياً بمعرفة الأحداث، فالتعليم يعتمد على التلقين، والجو العام كان وما زال لا يسمح بالنظر إلى التاريخ بعين الفاحص، بل بعين التمجيد والفخر، لتكتشف بعدئذ حجم الكذب والادعاء، فيما يُصدم الكثيرون بما تناقله المؤرخون وأجمعوا عليه، ويحاولون نكرانه، كي لا يهدموا الصورة التي في خيالهم عن أولئك الأشخاص المنزهين، سيما إن كانت محاطة بهالة من القدسية المزيفة، المرتبطة في أذهاننا بعروة وثقى مع الدين، وكأننا إن مسسنا بها لا بد قد ارتكبنا ذنوباً وسيئات تحتاج لتوبة ومغفرة، متناسين أن هؤلاء الناس بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، تصرفوا وفق ما تقتضيه المصالح السياسية في عصرهم، ولا علاقة للأمر بالإسلام كدين، على اختلاف تقواهم وورعهم.

وقس على ذلك كل ما جرى، فنحن ككل الأمم، تاريخنا فيه الأبيض والأسود، يحتاج للتصالح معه بكل ما فيه.

لكن يبدو أننا ما زلنا نتبع النهج ذاته الذي سار عليه أجدادنا، ولك أن تستمع للأخبار من التلفاز، فجل ما يصل إلى أذنيك هو “الله أكبر”، كلمة السر لأي نزاع في المنطقة، يستعملها الطرفان حين اللزوم في اليمن وليبيا وسوريا والعراق والسودان، ويقاتل تحت لوائها أفراد قد يكونون مقتنعين بمظلوميتهم، وربما سيدرس أحفادنا ذات يوم عنهم بأفعال بنيت للمجهول، ولا أحد يملك الجرأة ليقول أنهم كانوا جميعاً من الدين ذاته، وأحياناً كثيرة من المذهب ذاته، لكنهم استخدموا اسم الله، جل وعلا، زوراً وبهتانا، فالله لا يدعو للقتل، والقتال أمر آخر له شروطه وظروفه أولها الدفاع عن النفس، بعد استنفاذ كل فرص السلم، مع الأخذ بالاعتبار أن معظم آيات القتال في كتاب الله خاصة بعصر الرسول (ص) ولها مناسباتها وهي أخبار كباقي قصص القرآن، لا تدخل ضمن الرسالة الصالحة لكل زمان ومكان.

فإن شئت أيها القارىء الكريم أن تميز بين ما هو رسالة وما هو غيرها، عليك أن تبحث عن المنطق المقبول في كل العصور مهما اختلفت، لتجد ما يألفه كل الناس وذاك الذي تعافه أنفسهم، حيث محمد رسول الله للعالمين إلى أن تقوم الساعة، وما جاء به هو رحمة وأخلاق عامة، وإحسان وأعمال صالحة، مهما شرقت الإنسانية وغربت لن تختلف عليها، أما في المصالح السياسية فلا تصدق من يزجوا باسم الله في حروبهم، فالله أكبر من ذلك.

ثم هل لنا أن ننظر للتاريخ بحيادية دونما تعصب، لا تمجيد ولا جلد ذات، وإنما موضوعية تنظر إلى من سبقونا على أنهم أمم قد خلت {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (البقرة 141)، ونلتفت إلى شؤون حاضرنا ومستقبل الأجيال القادمة، بدل أن نقف بالماضي نتحسر عليه، والعالم يركض نحو الأمام، لن ينتظرنا؟

لن نلحق بالركب ما لم نحدد مقدساتنا تماماً ثم نرفع الغطاء عن كل ما علق بها دونما وجه حق، منتبهين إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أنه كلما اتسعت دائرة المقدسات كلما زاد التخلف والانحدار، فنحن يفترض نحمل لواء من هدم الأصنام إلا أننا على ما يبدو ما زلنا نقتات عليها نغطي من خلالها بؤس حاضرنا ليس إلا.