جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

هل نستحق السعادة؟

آراء

بحفل افتتاح «عالم ديزني» في مدينة «أورلاندو» بولاية فلوريدا عام 1971، وقف شقيق والت ديزني أمام قصر «سندريلا» في مملكة السّحر، وأعرب عن أمله للجموع المحتشدة، أن «يجلب عالم ديزني الفرح والإلهام لكلّ من يقصد هذا المكان السّعيد».

لم يكن ديزني المؤسس وصاحب الفكرة الأولى موجوداً يومها، كان قد رحل قبل ذلك بسنوات. مضى ولم يترك للبشرية قنبلة أو سلاحاً مدمّراً أو حتى جائزة مزيّفة تخلّده، وإنما ترك لنا صناعة مدهشة، عنوانها «الفرح والمسرّة».

انتقدني أحد الأصدقاء عندما زرت «ديزني لاند» ذات يوم، ولم أكن أدري حينها، لماذا تُستكثر عليَّ نعمة السّعادة، التي دفعت ثمن تذكرتها عند باب الدخول؟!

وضميري العاقّ، الذي يفترض أن يكون في صفّي بدأ يؤنّبني، ويكرّر عليّ ما يشبه معزوفة ذاك الصديق: «ألا تفكّر بالفقراء والمحرومين وضحايا الحروب؟ أنت ترقص وتغنّي وتلعب، وغيرك يتشرّد ويجوع ويتعب!».

فوجدت نفسي أقول مدافعاً: «نعم لعبت وغنّيت، ولكنّني لم أرقص»!. إلا أنّ دفاعي لم يكن مجدياً حينها، إذ حالاً بدأ هرمون السّعادة يقلّ، وراحت فرحتي تتلاشى، وأخذت بسمتي تزوي على صفحة وجهي.

لماذا يلعب معي ضميري الحيّ، ويختار أجمل الأوقات؛ ليبثّ رسائله المقيتة؟!

ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ وهل ما أفعله غير أخلاقي؟ أقصد هل محاولتي أن أفرح بلا حدود غير لائقة، أو ليست شرعيّة أو غير قانونيّة؟ وأنا غارق بلجّة ضميري، دخلت محلّ بيع الهدايا التذكاريّة، فوقعت عيني على أحد الأقداح، وقد كتبت عليه المقولة المعروفة: «اعمل بجدّ والعب بجد». لا أعرف كيف هتف بروحي هاتف: «ما أجملها من عبارة، وهذا وقت تحقيقها». اشتريت تذكرة وركبت ما يسمّى قطار «لعبة الموت»، ويا ليت الحماس لم يغلبني، ويدفع بي إلى هذه اللعبة المسليّة للمجانين من أمثالي، رغم أنني قرأت على المدخل جملة تحذيرات مهمّة، منها: لا تجرّب اللعبة إذا كنت تعاني أمراض القلب، أو الضّغط، أو كنت تعاني فوبيا الأماكن المرتفعة، أو الصّداع المفاجئ أو…

وما إنْ فرغت من اللعبة، ونزلت من القطار؛ حتى وجدت نفسي أعاني كل تلك المشكلات، فلم أقدر على المشي، ولم تعد رجلاي تحملانني، جلست على الأرض واحتضنتها بلهفة «ما أجمل الرّجوع إليها، لن أتركها مرّة ثانية»، ولكن ما إنْ اطمأنّ قلبي، حتى وجدت نفسي أتساءل:

لماذا يُستكثر علينا الفرح؟

لماذا نتآلف مع الحزن ونستغرب المسرّة؟

نفكر في الأحزان والمصائب، ونقرّ باللاوعي، من دون أدنى تفكير، أنّ السّعادة ليست لنا! لماذا ضميرنا مبرمج على دقّ ناقوس الخطر كلّما توغلنا في المسرّة؟

يا له من ضمير، ويا لها من برمجة عجيبة غريبة!

دائماً يجعلنا نشعر ونحن في مستهلّ الفرحة أنّ كلّ شيء مصيره إلى زوال، وأنّ هذه اللحظات كغيرها ماضية، أو أنّها من ضروب التّفاهة؟ ضميرنا يعتقد أنّه يقول الحقيقة، يخزّنها في اللاوعي، ويظهرها عندما يعتقد أننا فرّطنا فيها قليلاً!

ربّما هناك شيء من الصّحة في هذا الأمر، لكن ما لا يقوله لك الضّمير؛ ولن يقوله لك أبداً، هو أن «تستمتع باللّحظة». نعم هذه اللّحظة رغم أنّها مغادرة، لكنّني أعيشها الآن، اكتشفت ذلك متأخّراً جداً، ضاعت سنون عمري الأولى بتأنيب الضّمير، دفعت ثمنها من أجمل لحظات حياتي. كانت صفعات الحزن تأتيني على حين غرّة، وكانت تختار أوقاتها بعناية؛ ما إنْ تبدأ الفرحة حتى تنقضّ عليها، فتحيلها إلى همّ وغم. هكذا كان ضميري يقف بالمرصاد لفرحتي، ولكن هيهات بعد اليوم، أنا كنت معه طوال العمر، أعلم خبراته ومهاراته، وأفهم سطوة العادات والتقاليد، وموروث يتطاول إلى مئات السنين، وعُقد ومركّبات نقص، وتناقضات تشكّله لا أفهمها، ربّما لايزال ينتصر أحياناً، لكنّني بتّ أهزمه في معظم الأحوال، لذلك أقول له: لن تستطيع بعد الآن أن تسرق لحظات سعادتي؛ لأنّني أعلم يقيناً أنّها مغادرة من دون رجعة، كما غيرها من لحظات العمر.