رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

الشريعة والشرعية: دين الدولة أم دولة الدين؟

آراء

اختلف المحللون في فهم شعار «الشريعة والدستور والشرعية»، الذي رفعه متظاهرو «الإخوان» والسلفيين أمام المحكمة الدستورية، وأمام جامعة القاهرة. فقال البعض إن المقصود أنهم يمتلكون السلطة الدينية (الشريعة)، والسلطة الدنيوية (الشرعية). وقال البعض الآخر: بل إن المقصود هو اقتران الشرعية بالشريعة. وهذا الفهم هو الأقرب لما قصده رافعو اليافطة والشعار. فالشرعية لا تتحقق إلا بالدستور الذي تسوده الشريعة. وهذه ثقافة إخوانية انتشرت منذ الستينات من القرن العشرين. ففي سياق الأسلمة المتصاعدة في زمن الصحوة، ظهرت الإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان في مواجهة الإعلان العالمي لتلك الحقوق. وفي مواجهة الدستور المدني للدولة الذي يحفظ الحقوق والحريات، انتشرت صناعة الدساتير الإسلامية. والمعروف أن الدساتير تتكون من ثلاثة أقسام رئيسية: قسم الإحالات والمرجعيات (بمعنى الهوية والانتماء القومي، واللغة، وطبيعة الدولة ونظام الحكم)، والقسم الخاص بنظام الحكم وفصل السلطات، وصلاحيات كل منها وأصول ممارستها، والقسم الخاص بحريات المواطنين وحقوقهم وآليات تحققها وصونها. وقد كان الهم الأول لفكر الهوية في مرحلته الأولى: مسألة المرجعية وطبيعة الدولة، وهل هي عربية أم إسلامية؟ وعلمانية أم دينية؟ وفي هذه المرحلة كان الصراع يدور مع الأنظمة العسكرية التقدمية. ولأن تلك الأنظمة كانت تعتبر نفسها ديمقراطيات شعبية؛ فقد كانت الضحية الثانية للوعي الإسلامي الجديد بعد العروبة هي الديمقراطية. وقد جاءت المرحلة الثانية في الستينات ومطالع السبعينات من القرن الماضي مع التأثر بالسلفية، فقيل إن المرجعية الإلهية أو الشريعة هي مصدر السلطات وليس الشعب. وذلك عندما قال الغزالي والقرضاوي وغيرهما بحتمية الحل الإسلامي في مواجهة الحتمية الماركسية، وفي مواجهة الطغيان والطواغيت. ومن هنا تأتي أهمية الإضافة التي منحها الرئيس أنور السادات لـ«الإخوان» والإسلاميين عامة في دستور عام 1971 حين أضاف مادة ثانية أو المادة الثانية التي تذهب بعد تقرير أن دين الدولة هو الإسلام، إلى اعتبار الشريعة الإسلامية أو مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. وهكذا ما عادت الديمقراطية (التي تعني أن الشعب مصدر السلطات) سمة من سمات الدولة والنظام، بل صارت تشير إلى ترتيبات ممارسة السلطة، ومن آلياتها الاستفتاءات والانتخابات.

ما فائدة هذه الفذلكة الآن ضمن ما يجري من صراعات بمصر وغيرها في زمن صعود الإسلام السياسي؟ وكيف يمكن فهمها أو يجب فهمها لدى الإسلاميين؟

إن الواقع أن ثقافة «الإخوان» المصريين في تطوراتها منذ الثمانينات من القرن الماضي انتهت إلى نوع من الازدواج في المرجعية بين الشريعة والإرادة الشعبية. وما اعتنى السلفيون المصريون بشيء من ذلك حتى النصف الثاني من التسعينات. وظلت كثرتهم الساحقة تتنكر للانتخابات وسائر الآليات الأخرى، وتعتبر الشريعة مصدرا أوحد للشرعية بدستور أو من دون دستور. وعندما فاجأتهم الثورة، واندفعوا في سياقها مستبعدين الشكوك في الشعب إلى حين، كان فريق منهم متأثرا بتطورات في فكر السلفية الكويتية على الخصوص، كما اعتبر فريق آخر أن المسوغ الوحيد للمشاركة في الانتخابات إنما هو تطبيق الشريعة لاستعادة الدين إلى الدولة التي يكون عليها فرضه على المجتمع وفيه. وقد ساء كثيرين منهم تأخر «الإخوان» في المضي إلى هذه المآلات دونما تردد، فكان من ضمن «أناشيدهم» قبل شهرين فيما عرف بمليونية الشريعة: يا شريعة فينك فينك.. الإخوان بينّا وبينك!

وما خان «الإخوان» المصريون الشريعة بالمفهوم الذي يحولها إلى قانون ملزم بأيدي السلطة السياسية التي يتولون قيادها، ولا ترددوا في اعتبارها أساس الشرعية أو مصدرها في نظام الحكم؛ لكن الازدواجية التوفيقية سادت في تفكيرهم منذ الثمانينات كما سبق القول، وبتأثير أناس مثل الشيخ يوسف القرضاوي ومحمد سليم العوا وطارق البشري وأحمد كمال أبو المجد. ولذا فإن بياناتهم حتى عام 2007 تبدو متفاوتة التوجهات في مسائل مثل مرجعية الأمة أو ولايتها على نفسها، وأن للشريعة المرجعية العليا، وأن الشعب مصدر السلطات، والمساواة والسواسية بين المواطنين، وأن مقاصد الشريعة تسود في هذه الناحية وتتوارى في المسائل المتعلقة بحقوق المرأة، والعلاقات بالسلطات الشرعية. وقد حفظت لهم براغماتيتهم الظاهرة شعبوية زاخرة، أعانهم عليها حُسن تنظيمهم، وسوء سياسات النظام القائم بالداخل وتجاه الخارج. إنما في الوقت نفسه كانت السلفية قد استولت على أفكار شبانهم وكهولهم، فحالت دون ظهور فكر جديد متسق. وقد ظهر ذلك منذ الإعلان الدستوري الأول بعد الثورة. فقد اعتبروا أن الاستفتاء عليه هو استفتاء على إسلامية مصر ونظام حكمها، رغم أن مادة الشريعة ما كانت موضع خلاف ولا مطروحة للاستفتاء، وإنما كان الموضوع هو الآليات الواجب اتباعها لاجتياز المرحلة الانتقالية. والظاهر أنه تحت ضغوط السلفيين، وإغراءات الشعبوية الهائلة، انفرطت براغماتياتهم وتوفيقياتهم، فاندفعوا في الانتخابات بشعارات «الإسلام هو الحل»، و«تطبيق الشريعة»، متنافسين في ذلك مع السلفيين، ومزايدين عليهم، وما عادوا يريدون مشاركة أو مجاملة أحد، رغم بقاء الخطاب الظاهر من دون تغيير ملحوظ. لقد اعتبروا – كالسلفيين في الحقيقة – أنهم هم الإسلام في مصر، وأن من حقهم أن يسيطروا على كل شيء، وأن كل الآخرين – فضلا عن علمانيتهم وقلة دينهم – إنما يريدون الإعاقة والعرقلة حتى لا تنجح التجربة الباهرة لـ«الإخوان»، والمتمثلة في صمود استمر زهاء الثمانين عاما، قدموا خلالها تضحيات من أجل الإسلام لا يصح نكرانها. وقد قال أحدهم بالفعل إنه لولا جهاد الشيخ حسن البنا لانتقل الإسلام ذاته إلى رحمة الله!

ففي بدء عمليات الانشقاق الفكري ثم المجتمعي، جرى استخراج «الشريعة» من المجتمع أو فصلها عنه، وإعطاؤها طابعا قانونيا ملزما بسبب أصلها الإلهي. ثم كان انفرادهم هم وحدهم بحمل الشريعة، حتى إذا وصلوا للسلطة بعد الثورة اعتبروا أن المهمة الرئيسية للسلطة السياسية إنما هي تطبيق الشريعة، وهم بالتأويلات الدستورية والخطابية، والسلفيون من دون تأويل!

منذ عقود ما عاد الإسلام في فكر جماعة الإخوان إذن هو دين الدولة وحسب، بل صارت مصر هي دولة الدين، ولا رعاة له غيرهم. وإذا كانت خطابات الرئيس محمد مرسي ومحازبيه تركز الآن على حقه في إصدار الإعلان الدستوري باعتباره رئيسا منتخبا؛ فإن الثقافة الحزبية تعطيه حق الطاعة مطلقا لأنه إنما يطبق أحكام الشريعة وليس لأي سبب آخر. وأحسب أن خروج الملايين للتظاهر ضد الرئيس يوم أول من أمس، واضطراره إلى مغادرة قصره قد فاجأهم تماما، لكنه لن يدفعهم إلى التراجع والتنازل، وإنما قد يدفعهم باتجاه «المفاصلة الكبرى»، واثقين بحتمية انتصار الحل الإسلامي!

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط