تلك المواجهات حتمية وليست ترفًا

آراء

فى واقعنا العربى الإسلامى يتراكم- مع الوقت- عدد من المشاكل الضخمة، التى بحاجة إلى مواجهات جذرية وفاعلة، تصدٍّ حتمىّ من السلطة السياسية وكل قُوَى ومؤسسات المجتمع لهذه الأوضاع والمستجدات القلقة، وإلا سنعانى جميعًا من اضطرابات عنيفة، تهدد أمن بلداننا فى العقود القادمة.

قرأت، منذ عدة أيام، تحقيقًا حول التخوفات التى تواجه حكومات تونس ومصر والسعودية والعراق وسوريا وبعض الدول العربية الأخرى، فيما يخص مجموعات النساء والرجال العائدين من تصفية بعض عناصر دولة الخلافة الإسلامية «داعش»، حيث يفرض وجودهم السؤال الأهم: كيف لحكومات هذه الدول- وقواها الثقافية المؤثِّرة، من مؤسسات أو أفراد- أن تواجه، وتعيد تأهيل شخصيات، هى أقرب إلى «الأحزمة المتفجرة» التى تتحرك بيننا، كيف لها أن تعيد صياغة أذهانهم فكريًا وعقائديًا ونفسيًا، هل ستعزلهم فى محابس خاصة؟ هل ستوفر لهم مَن يستطيع فتْحَ مناقشات مُوسَّعة معهم؟ وهل ستضمن استمرار صدْق مَن ادَّعى منهم توبته، أو رجوعه عن تلك الأفكار فيما يسمى «المراجعات»؟ أم هل ستتركهم لنشْر الأفكار التى عادوا بها، وتشكلت على نحْوِها عقولهم وممارسات حياتهم؟ هناك إذن مشكلة لابد من الالتفات إليها.

على مستوى آخَر، هناك مجموعات من الأحزمة المتفجرة الأخرى، التى تتجسد فى الشباب والشابات، الذين تربوا فى مخيمات اللاجئين من الفلسطينيين أو السوريين أو اليمنيين أو العراقيين أو بعض الجنسيات العربية الأخرى، هؤلاء الذين يملؤهم السُخط والغضب، ورفض الكثير من الأوضاع والسياسات العربية، والتقييد على الحريات، وقضايا توزيع ثروات البلدان، واتساع الهوة الشديد بين الطبقات الغنية والفقيرة، فتسيطر خطابات الإسلام السياسى على شرائح كبيرة من تلك الأجيال، وتتركهم أرضًا خصبة للعنف، حيث تَعِدُهم بالجنة بديلًا عن الواقع المجحف، وتصوِّر لهم النعيم فى عودة الخلافة الإسلامية، وحياة السلف بكل أفكارهم المتشددة والرجعية، هذه الأفكار التى تُزيِّن لهم القتال، وحمْل السلاح، والشهادة، وتفجير أنفسهم، وتُمنِّيهم بالجنان وحور العين كبدائل عن الأوضاع المتردية التى يعيشون فيها، تُوهِمهم بأن الإسلام هو الحل: الخلافة الإسلامية، المدارس الإسلامية، الأدب الإسلامى، الاقتصاد الإسلامى، حتى نصل إلى النكاح والمضاجعة الإسلامية. هذه الشرائح خطيرة، وليست تحت الأضواء، وهى إما ناقمة على الأوضاع بصورة عامة، أو لديها الرغبة فى الفرار من هذه الأوطان الطاردة لمواطنيها.

مستوى آخَر ربما يبدو أقل خطورة، لكنه أكثر اتساعًا، يتمثل فى آثار الخطابات الدينية الموجَّهة إلى الطبقات الأوسع من المجتمعات العربية، المتوسطة والدنيا، فى نسيج حياتها اليومية فى المدن والقرى الصغيرة، حيث الخطابات المنتشرة، التى يقدمها المشتغِلون بالدين فى الجوامع والزوايا الصغيرة، أو دروس الدعاة التى لا تخضع للرقابة، هؤلاء الذين يزيِّنون- للشباب والأجيال الصاعدة فى كل لحظة وعلى نطاق واسع- خطابات تُعلى من شأن الجهاد لإعلاء كلمة الإسلام، وكأننا فى حرب دائمة، هذه الخطابات التى تؤكد على طاعة ولى الأمر طيلة الوقت، والتى تُكفِّر الآخَر، وترفضه، تستعلى على غير المسلمين، تُعلى من ثقافة الموت والاستشهاد، ترسِّخ لمفاهيم رجعية فيما يختص بشؤون المرأة، لم تزل تعتمد على ثقافة الخرافة، وتؤمن بثقافة النقل وتأبيدها، لا العقل والموضوعية، لا تؤمن بالمواطنة ولا دولة القانون، بل تدعوهم إلى تغيير المنكر باليد، وكأننا لم نزل نعيش فى كهوف الإنسان البدائى.

يطرح هذا المقال خطورة النسق الثقافى والمعرفى لهذه المجموعات السابقة، والذى يتمثل فى تقسيمهم المجتمع إلى فِرَقٍ وأحزاب وطوائفَ، وشعورهم بالاستعلاء على الآخرين، وتكفيرهم لهم، واستحلال أموالهم وأعراضهم ودمائهم.

هذه الشرائح فى المجتمعات العربية- مع تدنِّى أوضاعهم الاقتصادية، وتقييد مجال الحريات الذى بات مشكلة تتفاقم- تفرض علينا بالضرورة التخطيط لمواجهة الخطورة المحتملة فى الحاضر كل لحظة، والإعداد لمستقبل أكثر أمانًا. على الحكومات والمؤسسات المعنية والأفراد الاشتغال بإصرار، والتنسيق فيما بينهم على مشروع ثقافى معرفى كبير، يكون هدفه تغيير بنية الوعى فى الثقافة العربية بكل دولها، وتغيير طريقة التفكير فى الدين، مشروع ثقافى يتضمن محاور متعددة: أنواعًا من الخطابات الحوارية المصوَّرة والدرامية، أعمالًا درامية تجسِّد خطر تلك الخطابات العنيفة، وتشتغل على استراتيجيات ممتدة وواسعة لنسهم فى إعادة صياغة تلك العقول، ونبين خواء ولا منطقية تلك الخطابات المقدَّمة من الإسلام السياسى فى عالمنا المعاصر.

إن لم ننتبه إليها بمواجهتها بمشروع ثقافى كبير- متشعب الاختصاصات والمحاور المعرفية والعلمية والفنية، مشروع يشتغل على بنية الوعى وتصويب بعض المقولات والموروثات التراثية بأنواع متعددة من الخطابات الفكرية والفنية والسياسية والقطيعة مع البعض الآخَر، يشتغل على تطوير المناهج والخطابات فى المدارس والجامعات وكذا مراكز الشباب والأندية- فستظل مجتمعاتنا قابلة للتفجير كل لحظة.

المصدر: المصري اليوم