هدى ابراهيم الخميس
هدى ابراهيم الخميس
مؤسّس مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون

الاقتصاد والمورد الثقافي

آراء

الثقافةُ هي الهوية وعلامة الوجود، والخيار وفعل الإرادة، وهي اختصار معارف الإنسان عن ماضيه وحاضره، واختزال رسالته الإنسانية والمعرفية وأساس نهضة الشعوب.

وفي خضم الصراعات التي يشهدها العالم من حولنا، والتحديات الوجودية التي تواجهها الاقتصادات ذات المورد الواحد، يبقى التنويع في الاستثمار عاملاً أساسياً لنجاح الاقتصاد. واليوم نحن أحوج ما يكون إلى الثقافة كمورد اقتصادي واستثماري مهم لبناء مستقبل أكثر إشراقاً لأجيالنا القادمة.

وبينما تجتاح النزاعات المنطقة، تعلي دولة الإمارات راية التنمية والمشاريع الكبرى والاستثمار في الشباب وأبناء الوطن وإيجاد فرص عمل جديدة، وتنمية المهارات الإبداعية والقيادية، وتبني الابتكار والأفكار الخلاقة التي توازي حجم التحديات حاضراً ومستقبلاً.

ولأن الاقتصاد اصطلاحاً هو الانتفاع بكل الموارد المتاحة، فالثقافة هي المورد السامي والأمثل، لأن الثقافة التزام لأجل الإنسانية، بها يمتلك الناسُ أساس تطورِ مجتمعاتهم ونهضتِها المعرفية والاجتماعية والاقتصادية. وبها يعملون بتأثير إيجابي خلاق يرفع مستوى المعيشة ويرتقي بجودة العمل. وبالثقافة يتحدون لأنها قوة مُوحِّدةٌ تقوم على الإبداع، بالحوارِ والمعرفة، وهي قوةٌ محفّزةٌ للابتكار، وكل حركة ثقافية هي وليدة الفكرِ المتجدّد، وقوةِ الإبداعْ. ولأنها كذلك فإنها المحرّك الراسخ لكل استدامة تنموية ونهضة اقتصادية.

إن الاستثمار في الثقافة تعزيزٌ للنهضة وتحريكٌ لعجلة الاقتصاد في آنٍ معاً، وتمكينٌ لمستقبلٍ يواجه التحديات بفعلٍ ثقافي إبداعي، إذ تعتبر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) أنّ «الصناعات الثقافية والإبداعية من أسرع الصناعات نمواً في العالم، وثبُت أنها خيار إنمائي مستدام يعتمد على مورد فريد ومتجدد هو الإبداع الإنساني».

وتربط الدراسات بين الحركة الثقافية والتنمية الاقتصادية، إذ يرى كثير من الباحثين أن الاستثمار في القطاع الثقافي سبب رئيس في الانتعاش الاقتصادي للدول، فانتعاش القطاع الثقافي لدولة ما، يسهم في زيادة السياحة الثقافية وبالتالي ارتفاع الدخل المصاحب للحركة السياحية، فعلى سبيل المثال، تقدر الدراسات أن العلامة التجارية أو «الثقل الاقتصادي» لأيقونة باريس الثقافية، برج إيفل، بما قيمته 464 بليون يورو، كما أنّ مدناً عالميةً كبرى، وإن كانت عواصم للمال والأعمال فإنها تدرك ما للثقافة من أهمية في الاستقطاب والجذب السياحيين، وما للسياحة الثقافية من دور في زيادة الدخل وتنوع الموارد الاقتصادية، ولذلك تعمد إلى الترويج لمؤسساتها الثقافية والفنية بالقدر نفسه الذي تروّج فيه لمؤسسات المال والأعمال ومنشآت الصناعة فيها.

واليوم تولي الإمارات اهتماماً كبيراً بالثقافة والفنون وتتوج رؤيتَها بعشراتِ الملاحمِ الثقافية، من قممٍ للمعرفةِ، ومعارض دولية للكتاب، والفنون، وأسابيع وطنية للابتكار وعام للقراءة، وتسعى بخطى حثيثة نحو ترسيخ مقومات ثابتة لاقتصاد حديث يقوم على تكامل الحقول الثقافية والمعرفية والعلمية والصناعية، ويرتكز على الاستدامة وتنويع الموارد ومصادر الدخل الوطني.

وترسخ الإمارات منجزها الاقتصادي في اتجاهات عدة، فها نحن نشهد ازدهار السياحة الثقافية التي تحتفي بالإبداع العالمي وتكرم المنجز الثقافي، وتحتفل بالرواد فتخصهم بجوائزها التقديرية، والتي تزدهر في بنية تحتية ثقافية متكاملة تشمل المتاحف وصالات العرض الفنية والمؤسسات الثقافية ومهرجانات التراث والمهرجانات الدولية.

وتبدع القيادة الحكيمة للإمارات في التجديد وتغيير المفاهيم، ملتزمةً معايير التميز والحوكمة والصدقية والشفافية، إذ تقدم الإمارات نموذجاً عالمياً في الاقتصاد الإبداعي عبر العديد من المبادرات التي منها استقطاب السياحة الصحية كخدمة علاجية وثقافة استشفاء، وتوعية بقيمة الإنسان أولا كمستهدف بالتنمية، وبقيمة ثقافة الريادة التي تهتم بكل تفاصيل التنمية وتخصها بالاهتمام اللازم. كما ترسم الدولة خطها المتفرد في تنويع الموارد الاقتصادية بالرياضة والبيئة، فتستضيف بنيتها التحتية ذات المواصفات العالمية كبريات المواسم الرياضية والراليات ومسابقات البر والبحر وفعاليات الطيران، كما تنظم ملتقيات البحوث البيئية وبحوث الطاقة النظيفة، والقمم المناخية، وتولي محمياتها البيئية وحياتها الفطرية الاهتمام الأقصى فتحفظ مواردها الطبيعية وتحمي كائناتها المهددة بالانقراض وترسي السياحة البيئية.

تدرك الإمارات تماماً أية قيمة عظيمة يحملها الفعل الثقافي في خدمة النمو الاقتصادي واستدامة التنمية، لهذا تكثّف الجهود المخلصة المستمدة من تراث عميق وماضٍ عريق، وأصالةٍ متجذرةٍ في التاريخ، مدركةً دور البنية التحتية الثقافية في استــقطاب السياحة الثقافية والاستثمار وتحقيق التنمية الاقتصادية، عاملةً على خلق منجز ثقافي ذي قوةٍ اقتصادية عظيمة للحاضر والمستقبل، تكتـــمل أركانه بالابتـــكار في الفكر والثقافة والفنون والصناعة والعلوم والاستثمار في الصناعات الإبداعية. وبهذا المنجز الثقافي، والذي سمتُه التنوّع والثراء، يكون ثراء الموارد وتنوّع الاقتصاد. وبكل ذلك تتحرك عجلة الاقتصاد إلى الأمام، ليكون الاستثمار في الإنسان والإبداع الإنساني الغاية النبيلة المثلى والهدف الأعلى، لأنه المورد الذي لا ينضب.

المصدر: صحيفة الحياة