المثقف والملائكة

آراء

مرة حاورت الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي في مكتبه في بوسطن. وجاء الحوار إلى دور المثقف في صناعة التغيير. كان سؤالي يفترض “المثالية” في المثقف وفي أدواره. وكان تشومسكي يذكرني أن المثقف في آخر النهار إنسان، مثله مثل بقية الناس في مجتمعه، وليس نبياً أو من الملائكة حتى نصبغ عليه المثالية.

المثقف -في إجابة- تشومسكي له قناعاته التي قد لا يتفق عليها الناس وبالتالي يصدمهم أحياناً بآرائه التي لا تتوافق مع آرائهم. وهو أيضاً صاحب مصالح ومخاوف تبدأ من خوفه على عائلته ولا تنتهي عند خشيته على نفسه من السجن أو الموت.

استغرب هذه الأيام من بعض الناشطين، في المجالس الخاصة أو في قنوات التواصل الاجتماعي، وهم يتحدثون بمثالية مفرطة عن “القيم” و”المبادئ” و”الأخلاقيات” التي يفترضونها في المثقف. وهم يضعون معايير تلك القيم والمبادئ وفقاً لآرائهم ومواقفهم. فالمثقف الذي لا يتفق مع مواقفهم يصبح مباشرة في نظرهم عميلا وخائنا وليس عنده مبادئ!

والسؤال هنا: من يُقيّم من؟ ومن يملك الحق في الحكم على مواقف المثقف وقناعاته وتحولاته؟ لكن السؤال الأهم: كيف لإنسان أن يفترض في إنسان آخر أن يكون “كاملاً” والكمال من صفات الخالق لا من صفات البشر؟

صحيح، هناك “قيم” إنسان متفق عليها ربما جازت محاكمة مواقف المثقف تجاهها ولكن يبقى السؤال: من يحاكم من؟ مثقف يحاكم مثقفاً آخر؟ أم ناشطاً لا يرى المواقف إلا من منظور قضيته وحده؟

ينسى هؤلاء الذين يصدرون أحكامهم على مواقف المثقف وقناعاته تجاه الأحداث في محيطه مواقفهم الملتبسة تجاه قضايا أخرى في محيطهم. ولهذا -ووفقاً لهذه العقلية- لن ينجو المثقف -خاصة في أوقات الأزمات الكبرى- من تهم تخونه وتتهمه بالتواطئ والعمالة وتبديل المواقف. وهي تهم ربما جاز قبولها لو كانت صادرة من رموز مثالية في التضحية والعدل والصدق والنقاء!

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٣٦) صفحة (٢٨) بتاريخ (٢٧-٠٧-٢٠١٢)